عائد زقوت
أمد/ بين التفاقم والمحاولات لِلَجم الكارثة الإنسانية، والسياسيّة التي حلَّت بالقضية الفلسطينيّة وأهل غزة وكأنّها التقَمها الحوت، وفي ضوء الاحتلال المؤقت أو ما أطلقت عليه إسرائيل المرحلة الثالثة للحرْب، الذي من الممكن أن يتحول إلى احتلال دائم إذا ما تمكنّت إسرائيل من إعادة احتلال محور صلاح الدين فيلادلفيا، وبعد دخول الحرب إلى المئويّة الثانية من التعداد اليومي، لا زالت جغرافية غزة وديموغرافيتها تُمثّلان المخزون الاستراتيجي والمادة الأساس التي يراهن عليها طرفا الحرب، لتحقيق أهدافهما السياسيّة، وفي تقديري أنّ أيّ ادّعاءات أو رؤى مناقِضة لذلك ماهي إلا سَراب رُؤيوي يستند على التخاريف الأسطورية، ودرب من الهَرطقات السياسية التي تعيش في شرنقة أفكار مُروّجِيها.
من نافلة القول الحديث عن فشل المجتمع الدّولي، ومؤسساته من إنصاف الشعب الفلسطيني بعد مرور مائة يوم من القتل والإرهاب الدموي فحسب، وإنما عبر سبعة عقود من الاحتلال والتهجير والتشريد، والسّعي الدؤوب لفرض وقائع ومرجعيّات ينسف بعضها بعضًا إلى أن أدخلَتْنا في غياهب الجُبّ، فمِن قرار التقسيم كمرجعيّة لحل الصراع، ثم استبداله بالقرارين 242, 338 بعد حرب حزيران 1967، ثم مرجعية أخرى مختلفة عمّا سبقها، تمثّلت بمبادئ اتفاقية أوسلو وما تَلاها من خارطة الطريق وانتهاءً بالحديث المتواتر من سَدَنة البيت الأبيض بوضع استراتيجية جديدة تعتمد على مبادئ صفقة القرن التي ترمي من خلالها إلى التطبيع مع المملكة السعودية برمزيتها العروبية والدينية، والقضاء على حركة الاستقلال الفلسطيني بتكريس كيان انفصالي في غزة يمتد إلى إمارات انفصاليّة في الضفة الغربيّة.
يرى التحالف الإسرو أميركي أن ما يشهدُه العالم من حراكٍ متسارعٍ نحو إحداث توازن في النظام العالمي بحاجة إلى جراحة غير نمطيّة خارج القانون الدولي لاستمرار فرض الهيمنة الغربيّة على العالم، وفي سياق هذا الحراك والنزاع تخلَّت القوى العالمية الكبرى عن القوانين الناظمة للعلاقات بين الدول، وجعلوا من شريعة الغاب ناظمًا ومرجعًا لتحقيق مصالحهم، ودفعت بكل أوراقها لحسم المعركة، فكانت أوكرانيا قربانًا للنزاع بين الناتو وروسيا الاتحادية، و مرورًا بموجة الانقلابات التي اجتاحت افريقيا وبثّ الفوضى غير المنظّمة في بلدانها ودُولها، والنّزاع حول تايوان مع الصّين، ولم يكن الشرق الأوسط بما يحمل من متناقضات أيدولوجية وقوميّة ببعيد عن هذا الصراع، وإذا ما أخذنا بعيْن الاعتبار المحاولات الأميركية المحمومة لإقصاء الدّول القومية وأنظمتها الحاكمة التي اتّهمتها أميركا بالفشل لعدم قدرتهم على منع وتفريخ وتصدير ما يسمّونه الإرهاب وعناصره الإرهابية إلى الخارج، ومن ثمّ فتحت المجال أمام الأيدولوجيات الدينية لتبوْء الحكم فيها عملًا بنظرية توظيف الدين لقيادة القطيع الجماهيري.
الفشل الذي لازَم المحاولات الصهيوأميركية في المنطقة والقائم على أدْيَنة الصراع كوسيلة لبناء شرق أوسط جديد، والذي يستهدف اجتذاب نظام الإسلام السياسي بشقّيْه الشيعي والسني الرسمي منه وغير الرسمي للاعتراف بالصهيونية واسرائيل، أحدَث هذا الفشل تحولًّا تكتيكيًّا في السياسة الخارجية الأميركية لجهة التحالف مع تلك الأيدولوجيات.
لا يجانب الصواب القول أنّ ساسة وقادة ومفكّروا هذا النظام لم يُسلِّموا بعد، بأنّ مشروعهم السياسي طبقًا لنواميس الكون والتجربة الحضارية والإنسانية بات في دورته الأخيرة، بل يعتبرون مشروعهم الذي شقّ طريقه عبر قرن من العمل والمناورات والاحتواء والاقصاء ما زال يصلح لأنْ يكون معيارًا وتعييرًا لكافّة المشاريع المطروحة لحلّ الصراعات في المنطقة بل وفي العالم بأسره، وأن ما لاقاه ويلاقيه مشروعهم في هذه المرحلة من إخفاقات وتراجعات وعقبات سيتم تجاوزها لأن مجمل العقبات أوجدتها قوى مناوِئة تهدف إلى إحباط مشروعها في المنطقة.
من هذا المُنطلق فإن دخول غزة إلى بطن الحوت والحرب الدائرة فيها تُمثّل حلقة ضمن حلقات هذا المشروع، فَقُدِر لغزة أن تُذبح قربانًا على معبد المحاور والمشاريع الأيدولوجية، عبر تكرار نموذج الأنظمة الدكتاتورية الاقصائية التي ترى ببقائها في المعادلة السياسية الإقليمية أولوية تفوق أيّ حل سياسي يتجاوزها لمصلحة الحفاظ على بقاء شعبها وصموده، وإخراجه من آتون العتمة الغارقة في بطن الحوت.
كلام في السر : الشعب الفلسطيني ليس بيدقًا في سوق النخاسة السياسيّة، وليس بحاجة إلى العقل التبريري التسويغي المُستَعبد المرهون بالعاطفة، والمرتهن على الإرادة الانتمائية.
شوية عقل : التصريحات الصادرة عن أقطاب حركة حماس في الآونة الأخيرة التي تؤشر للاستعداد للاعتراف بإسرائيل سواء حين قيام دولة فلسطينية، أو بدخول منظمة التحرير والعمل ببرنامجها السياسي، فالعقل يقول بلى من هكذا مماحكات، وفَجِّروا هالقنبلة وبلاش المشي على حافة الهاوية الوطنية.