بكر أبو بكر
أمد/ يتعجب الكثيرون اليوم من قسوة حكومات الدول الاوربية، والإدارة الامريكية في تعاملها مع المشاهد المرعبة في فلسطين وقطاع غزة، ويكادون يصرخون في داخلهم أين الانسانية التي تتبجح بها الحكومات الاوربية، أو الغربية؟ وما مصير كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية حول الحرية والسلام وحقوق الانسان؟ وحق تقرير المصير للشعوب، ومعاهدات الحرب و المناهضة للقتل الجماعي والجرائم أثناء الحرب، وحماية المدنيين من الاحتلال والاستعمار، كما الحال مع الإبادة الجماعية؟
يتعجب أحرار العالم أكثر ربما حين تتعامي عديد الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية عن حجم وهول القتل والتخريب والتدمير والسحق للفلسطيني الغزّي المجرد من سلاحه وأحلامه، لتعيد انتاج فكرة الاستعمار برداء “حق الدفاع عن النفس” الأصفر، وكأن المحتل يمتلك مثل ذلك الحق، وهو المعتدي الأبدي لمجرد وجوده محتلًا!
وفي تفسير سبب القساوة وجمود القلب بل والنظر للآخرين بعنصرية ودونية فقد يجد المؤرخون مسوّغات بهذا الأمر نراهُ مما كتبه الكثيرون واصفين الشعوب الأوربية القديمة بالقسوة الشديدة والعنف مقرونة بشهوة الحكم في تعاملها الثنائي ما بين الحروب الطاحنة الداخلية بالقارة الاوربية في مرحلة ما من تاريخها الأسود، ومن ضمنها روسيا.
وما الحروب المرعبة (بطابعها الديني المتعصب) التي كانت تحصل بين الأوربيين ككاثوليك وبروتستانت الا أمثلة من الجرائم البشعة التي استمرت لعقود وأحيانًا قرون مظلمة عديدة، وفي ظل جهالة علمية كبيرة، كما الحال بجرائمهم المتواصلة ضد مواطنيهم الأوربيين اليهود، وما كان أيضًا من القضاء على آخر مسلم بالقارة بعد سقوط الاندلس.
إن الجرائم والقتل والإبادة وقساوة القلب كانت تنتقل حسب المتغيرات السياسية-الاقتصادية المغلفة بالدين بالقارة الأوربية الى المنطقة العربية الإسلامية حين غزو المنطقة الغنية ل7 مرات (حروب الفرنجة/الصليبيين)، ثم لاحقًا خارجها (منذ القرن 15 ميلادي) بذات الفعل أي قتل وذبح واستعباد لشعوب القارات الأخرى خاصة إفريقيا والامريكتين، فيما كان من فكر مريض بالعنصرية والعليائية البيضاء التي عملت على إقحام الدين المسيحي الغربي بالموضوع. وكان ما كان من إبادة قبائل وشعوب بأكملها وبالملايين تحت مظلة الحرب ضد البرابرة او آكلي لحوم البشر؟! أو الوثنيين والغرض الرئيس هو نهب القارات وشعوبها واستغلال ثرواتها وعلى حساب الأمم والممالك التي كانت تعيش بسلام.
إن عقلية الهيمنة والمركزية للعقل الاستعماري الأوربي-الامريكي تعني بضرورة أو إجبار الشعوب الأخرى على الدوران حولها، فهي المركز أو محور الكون، وباعتبارها النموذج الأوحد للحضارة!
إن عقلية الرجل الأبيض العنصرية الاستعمارية تنظر للآخر تابعًا لا غير.
وليس لهذا التابع الا أن يدور حول الرب الأوربي أو الغربي سياسةً واقتصادًا وثقافة وقيمًا ودينًا ومفاهيما.
إن عقلية الأوربي الاستخرابي (الاستعماري)المريض بذاته أو عقلية المتحضر الأبيض –في جيناته كما حاول الأوروبي تصويره في مرحلة- تجعل مصالحه هي الأولوية على الوثني أو المسلم أو اليهودي أو بتبسيط ضد كل البرابرة، وهي مصالح لا تدانيها أولوية، فكان الاستخراب (أو الاستعمار أو الاستدمار) مؤسسة عالمية بغيضة. وهو ما انتقل لاحقًا عبر الانجيلية-الصهيونية لتحويل فلسطين العربية الى مستخربة (مستعمرة) للمواطنين اليهود الاوربيين ضمن ذات العقلية وهو ما حصل.
نشأت وتصاعدت الثورات في كل أجزاء العالم ضد هذه العقلية الرسمية الأوربية الاستخرابية، فكانت الاستقلالات وإن أخذ غالبها الإطار الشكلي خاصة في القرن العشرين. وقامت الثورات أيضًا ضد نتائجها من دول أو أنظمة وقيادات كرتونية تابعة. وبحالتنا الفلسطينية ممثلة بمناهضة آخر استعمار واحتلال، أي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
لكن العقلية الاستعمارية الأوربية-الامريكية المتوارثة تلك المرتبطة بأولوية الأهداف السياسية والاقتصادية والهيمنة على العالم مازالت عند حدود نظرتها فيما حصل في حالتنا من النكبة عام 1948 ثم الثورة الفلسطينية عام 1965 وصولًا الى المقتلة الرهيبة والكارثة، مذبحة الإسرائيلي (المتشح بثوب الغربي الأبيض وثوب التناخ/التوراة) بقطاع غزة عام 2023-2024م.
ثارت غالب الشعوب الأوربية وفي أمريكا ضد العنصري “كريستوفر كولومبس” -مكتشف القارة الذي مارس الإبادة الجماعية ضد شعوبها-احتجاجا على قتل الأمريكي الأسود “جورج فلويد” عام 2020م وعبرت بوضوح عن رفضها للأرث الاستعماري/الاستخرابي التدميري، وكما تفعل ذات الشعوب والحراكات الشعبية الاوربية وفي أمريكا اليوم ضد معظم الحكومات.
إن فهم العقلية الاستخرابية (الاستعمارية) أصبح واضحًا، فتجد الربط اليوم بين الهيمنة والاستبداد عبر الشركات الحاكمة والعابرة للقارات والإخضاع للآخرين بالرضا أو التضليل الدعائي، أوبالإغراء أو القوة بتتبيع الاقتصاديات والشعوب، وإهانة ثقافتها ولغتها وحضارتها واستتباعها للمهيمن الأوربي-الامريكي وبالتالي لا يحق لها تحت مفهوم التابعية العنصري هذا النظر بمساواة أو بتحدي.
إن القساوة والظلم، والعمى الغربي -بعموميته رسميًا- عن النظر لحجم المجازر والدمار تحت أعين العالم بدأ يحقق ثورة شعبية عارمة بالعقل الغربي الشعبي ولدى عدد من المثقفين وهو العقل الناهد نحو الحرية والمساواة وحقوق الشعوب هذا إن لم يحققه منذ الآن بما نراه من حراكات نضالية جماهيرية ومنها الشبابية تنتشر في أرجاء العالم .
إن ما يحصل في فلسطين اليوم وعبر رئتها الجنوبية في قطاع غزة من “مقتلة” ومن “كارثة” لا مثيل لها بالتاريخ، سيكون بداية النهاية لأكاذيب الحضارة المركزية، وحقوق الانسان الغربية، وبداية النهاية للعقلية الاستعمارية الغربية المهيمنة ومن تبعها.