أمد/ لندن: كشف المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم في الشرق الأدنى (الأونروا) فيليب لازاريني، في حوار مع “الشرق الأوسط” السعودية، غداة عودته من رحلته الرابعة إلى غزة منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أنه قرر إجراء “مراجعة مستقلة” عبر طرف ثالث ستبدأ “في أقرب وقت ممكن” للتحقق من صحة أو خداع ادعاءات إسرائيل بشأن استخدام “حماس” وغيرها من الفصائل منشآت الوكالة في سياق الحرب الحالية، على غرار استخدام المدنيين “دروعاً بشرية”، معترفاً بأن السكان “محاصرون بين أنواع مختلفة من الأجندات”.
وأسهب المفوض العام في وصف رحلته التي استمرت 3 أيام، وتزامنت مع مضي 100 يوم على الحرب، وما عاينه من الأوضاع المزرية التي يعيشها السكان، محذراً من أن المجاعة صارت وشيكة.
وأكد أن المأساة كلّفت حتى الآن أكثر من 20 ألف قتيل، بينهم ما بين 60 في المائة والثلثين من الأطفال والنساء، ونحو 150 من العاملين لدى الوكالة الأممية. ولم يستبعد ارتكاب جرائم حرب من إسرائيل وكذلك حماس، ولكنه شدد على أنه يجب الآن “وضع حد لهذه المعاناة، ولهذا البؤس”، مؤكداً أن المنظمات الإنسانية في “سباق مع عقارب الساعة سعياً إلى عكس تدهور الوضع الإنساني، والتأكد من أننا لا نضطر إلى التعامل في الأسابيع المقبلة مع حالة من المجاعة”. وطالب بـ”تدفق واسع النطاق للمساعدات الإنسانية والسلع بنسبة أكبر كثيراً مما كانت عليه الحال قبل الحرب، وهي زهاء 700 من الشاحنات يومياً بسبب الوضع الإنساني المتردي”.
ووصف لازاريني عمل الصحافيين في غزة بأنه “استثنائي في ظل ظروف مستحيلة”، بل إنهم “دفعوا ثمناً باهظاً”، مشيراً إلى أن “الأونروا” فقدت “أكثر من 150 موظفاً قُتلوا منذ بداية الحرب”، وهم معلمون أو ممرضون أو مهندسون أو موظفو موارد بشرية أو سائقون. وأكد «مقتل أكثر من 20 ألف شخص» في هذه «المأساة»، مضيفاً أن التقديرات تفيد بأنه «بين جميع الذين قتلوا، لدينا ما بين 60 في المائة إلى الثلثين من النساء والأطفال». واستطرد أنه «ليست لدينا آلية لمراجعة الرقم بشكل مستقل»، قال إن هذا «بالتأكيد أفضل تقدير متاح حتى اليوم»، علماً أيضاً بأنه «لا يزال هناك عدد من الأشخاص لا يزالون تحت الأنقاض في شمال غزة، وجنوبها».
ذروة الحرب
ورأى لازاريني أن ما تواجهه غزة اليوم هو «ذروة الحرب» إذا ما قورنت بالحروب في أفغانستان أو اليمن أو أفريقيا، مستخدماً القياس في “عدد الأشخاص الذين قُتلوا في مثل هذا الوقت القصير نسبة إلى إجمالي عدد السكان، وعدد الأطفال الذين قُتلوا نسبة إلى إجمالي عدد الأشخاص الذين قُتلوا، وعدد الأشخاص الذين سيصابون نسبة إلى إجمالي السكان في مثل هذا الوقت القصير، وحقيقة أن 90 في المائة من السكان اضطروا إلى الفرار أكثر من مرة، حقيقة أن 60 المائة من البنية التحتية في قطاع غزة تضررت أو دُمرت بالكامل في مثل هذا الوقت القصير، وحقيقة أننا نتحدث أيضاً عن مجاعة وشيكة واسعة النطاق، لديك مجاعة محتملة تلوح في الأفق – قد تلوح في الأفق جيوب أيضاً في مثل هذا الوقت القصير، وهو أمر من صنع الإنسان بالكامل؛ لذا، ففي غزة، فإن الكثافة والعدد الذي نتحدث عنه مذهلان للغاية”.
وعما إذا كان قلقاً من احتمال ارتكاب جرائم حرب أو جريمة ضد الإنسانية من إسرائيل أو «حماس» أو أي جهة أخرى، أجاب الموظف الدولي الذي باشر العمل مع الأمم المتحدة منذ عام 2003 أنه «سيجري تحديد ذلك لاحقاً من الهيئة القانونية الدولية للمجتمع الدولي». بيد أنه أضاف أن «ما رأيناه خلال الأشهر القليلة الماضية هو أن مجتمعاً بأكمله تأثر»، مؤكداً أن «جريمة الحرب هذه يمكن أن تكون قد ارتكبت من الإسرائيليين، ولكن أيضاً من (حماس)». وقال إن «المهم في الوقت الحاضر هو محاولة وضع حد لهذه المعاناة، لهذا البؤس».
صراع من أجل البقاء
بعد رحلته الأخيرة التي شملت رفح وخان يونس ودير البلح، عبّر لازاريني عن «ذهوله» من “الطريقة التي يستسلم بها الناس، والإرهاق، وكيف يحاولون أن يكونوا في وضع البقاء التلقائي على قيد الحياة”، موضحاً أن السكان «لا ينامون» و«يتقاسمون» ما لديهم، إذ إن بعضهم يعيش على وجبة واحدة كل يومين، في ظل صراع للعثور على المياه.
وقال: “يشعر الناس بالقذارة الشديدة أيضاً. إنهم يعيشون في حال صحية مزرية للغاية”، مضيفاً أنه “إلى جانب عدد الأشخاص الذين يقتلون بسبب استمرار العملية العسكرية والأعمال العدائية والقصف، الناس بدأوا يموتون أيضاً بسبب تفشي الأمراض، أو بسبب الجوع، أو بسبب ضعف المناعة، أو لأنه لا يمكنهم التعافي أيضاً من إصاباتهم في غزة”.
شعر لازاريني بما سماه «رهاب الانحباس» في إحدى المدارس المكتظة للغاية التابعة للوكالة في دير البلح، حيث تواصل مع اللاجئين فيها “لمحاولة فهم كيف يكافحون يوماً بعد يوم من أجل الاستمرار والبقاء على قيد الحياة”، وسمع قصصاً عن «نساء قررن تناول أقل قدر ممكن من الطعام، وشرب أقل قدر ممكن من المياه حتى لا يضطررن إلى الذهاب إلى المرحاض. الناس يرتدون الملابس نفسها لأسابيع، ويعانون أمراضاً جلدية، والقمل يملأ شعرهم»، ويضطرون إلى النوم على الأرض الخرسانية من دون فراش وبطانيات مناسبة في ظل الشتاء، ووسط القلق من القصف المحتمل.
المنظمات الإنسانية
وأكد أن «الأونروا» هي المنظمة الرئيسية العاملة في قطاع غزة، بالإضافة إلى برنامج الغذاء العالمي وصندوق الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» ومنظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» و«الهلال الأحمر» الفلسطيني، مضيفاً أن “ما نستطيع تقديمه من مساعدة أبعد ما يكون عن أن يتمشى أو يتناسب مع ضخامة الحاجات”.
وأكد أن أزمة نقص الوقود “أثرت في الواقع على كل جوانب الحياة اليومية والبقاء في قطاع غزة”، موضحاً أن المنظمات الإنسانية في “سباق مع عقارب الساعة سعياً إلى عكس تدهور الوضع الإنساني، والتأكد من أننا لا نضطر إلى التعامل في الأسابيع المقبلة مع حالة من المجاعة”.
وكرر أن “المساعدات ليست كافية. ونحتاج أيضاً إلى تدفق السلع إلى غزة على نطاق واسع وبطريقة مجدية”، مذكراً بأنه قبل الحرب “كانت لدينا نحو 500 شاحنة تجارية تدخل، وما بين 100 إلى 200 شاحنة من المساعدات الإنسانية لدعم السكان. أما اليوم، فنتحدث عن إجمالي 200 أو أكثر من الشاحنات، وهذا حصل بعد الزيادة الحديثة أخيراً، لكن الحاجة صارت أعلى بعشر مرات مما كانت عليه من قبل. وهذا يدل على أننا بعيدون كل البعد عن توفير المساعدة الأساسية ذات المغزى التي يحتاج إليها السكان”.
الاتهامات ضد “الأونروا”
وفي ظل الاتهامات المتكررة من إسرائيل ضد الوكالة الأممية الأقدم على الإطلاق بأنها تستخدم من «حماس» والفصائل والمقاتلين الآخرين الذين “يتخذون من (الأونروا) والسكان دروعاً بشرية”، أقر لازاريني بأن “هناك عدداً لا بأس به من الادعاءات ذات الطبيعة المتنوعة، حول الأنفاق، وحول الأسلحة، وحول النشاطات”، مضيفاً أنه “في مثل هذه البيئة المكتظة، ليس هناك شك في أن السكان المدنيين يدفعون الثمن، كما أن السكان المدنيين محاصرون بين أنواع مختلفة من الأجندات، والعمل في هذه البيئة المكتظة يعرض المدنيين دون داعٍ”.
وكشف أنه اتخذ قراراً بـ”إجراء مراجعة مستقلة” بشأن هذه الادعاءات بغية «معرفة ما وراءها، وما هو الجزء المخادع الذي يهدف إلى النيل من الوكالة، وما يمكن أن يكون الجزء الحقيقي، ولننظر بعد ذلك كيف تتعامل الوكالة مع ذلك”، مشدداً على أنه في الوكالة “لا نعمل في بيئة خالية من المخاطر. إنها بيئة عاطفية مثيرة للخلاف بشكل استثنائي. ولكن كوكالة، نعمل بشكل كامل بما يتمشى ومبادئ الأمم المتحدة وقيمها، وسنتأكد من أنه إذا لم يمتثل أحد الموظفين بأي حال من الأحوال لهذه القيم، سننفذ سياسة عدم التسامح مطلقاً”. وأمل في أن تبدأ المراجعة المستقلة “في أقرب وقت ممكن”، مضيفاً: “انتهينا الآن من الشروط المرجعية. وأنا الآن أبحث عن تحديد أفضل طرف ثالث لإجراء مثل هذه المراجعة”.
إلغاء “الأونروا”؟
وحيال ما يردده الجانب الإسرائيلي عن إلغاء «الأونروا» نهائياً، ذكّر لازاريني الذي يحمل الجنسيتين السويسرية والإيطالية بأن الوكالة “لديها تفويض من الجمعية العامة والدول الأعضاء فيها؛ لذا، فإن الأمر متروك للجمعية العامة ودولها الأعضاء”. لكنه تساءل: «إن لم تكن (الأونروا) موجودة، من الذي سيوفر التعليم غداً لـ300 ألف طفل، فتياناً وفتيات، في مدارسنا». وكذلك ذكر بأنه “كان يفترض أن تكون (الأونروا) وكالة مؤقتة (…) حتى يأتي اليوم الذي يجري فيه التوصل إلى حل سياسي دائم وعادل. الآن، للأسف، منذ ما يقرب من 75 عاماً، لم يحدث حل سياسي عادل ودائم، ولم يُقَدَّم بديل بشأن من يجب أن يتولى مسؤولية وكالة مثل وكالتنا”.
وقال إنه “إذا أردنا تعزيز السلام والأمن في المنطقة مستقبلاً، فنحن بحاجة أيضاً إلى الاستثمار الحقيقي في عملية سلام مناسبة» تفضي إلى ذلك الحل، وبالتالي فإن «المشروع السياسي وخريطة الطريق في نهاية هذا الاتجاه من السفر، هو الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه (الأونروا) قادرة على الإنهاء التدريجي، لأن دولة جديدة، أو سلطة جديدة، ستتولى الخدمات التي تقدمها الوكالة”.
وأضاف أن “الاعتقاد في بعض الأحيان بأنه إذا جرت تصفية الوكالة سيعالج وضع اللاجئين الفلسطينيين، ما هو إلا اختصار ساذج”، لأنه “حتى لو لم تقدم الوكالة خدماتها، فإن وضع اللاجئين الفلسطينيين سيبقى حتى يأتي اليوم الذي يجري فيه التوصل إلى حل سياسي مناسب ودائم وعادل”.
الدعم المالي واليوم التالي
ووجه لازاريني رسالة إلى الغزيّين بأن «الأونروا ستبقى في غزة، وستواصل تقديم الدعم لكم، ولن تعبّر عن تضامنها فحسب، بل ستستمر في تقديم المساعدة»، مضيفاً أنه بالنسبة للمنطقة «من المهم تقديم الدعم للوكالة مالياً – فهو أمر أساسي للغاية» لمواصلة توفير الخدمات العامة مثل التعليم أو الرعاية الصحية الأولية أو شبكة أمان الحماية الاجتماعية في ظل «أزمة إنسانية غير مسبوقة». وقال: «نحتاج إلى الموارد، وإلى حشد المنطقة والعالم العربي والتعبير عن تضامنها مع الوكالة، بما يتجاوز الدعم السياسي، ولكن أيضاً من خلال توفير الموارد اللازمة».
وإذ تجنب التكهن باحتمال حدوث تهجير قسري للسكان البالغ عددهم نحو 2.2 مليون شخص، ذكر بأن الغالبية تتركز الآن في جنوب القطاع عند رفح، الواقعة على الحدود. وعبر عن «القلق أيضاً من أن سكان غزة لن يتمكنوا في أي وقت قريب من رؤية كيف سيبدو مستقبلهم. نواصل الحديث عن اليوم التالي، لكن الخوف هنا هو أن اليوم ذاته لم ينته بعد، وقد تكون فترة طويلة للغاية بين اليومين»، أي بين اليوم والغد، في «فترة من البؤس واليأس والضيق» لأنه «حتى الآن ليس لدينا على الطاولة مشروع سياسي مناسب». وكذلك أكد أنه «قلق للغاية» بشأن مصير نصف مليون فتاة وفتى «ليسوا في المدرسة اليوم، ويعانون صدمة عميقة بسبب هذه الحرب، ليس فقط هم، ولكن أيضاً عائلاتهم، وكذلك المعلمون»، محذراً من أنه «كلما انتظرنا أكثر، خاطرنا بخسارة جيل كامل، ولكن يوجد أيضاً جيل كامل آخر بعد ذلك سيتربّى على الاستياء والمرارة. وهذا بالتأكيد ليس ما تحتاج إليه المنطقة في المستقبل”.