المستشار د. أحمد يوسف
أمد/ لم يخطر ببالِ من خططوا لعملية “طوفان الأقصى” أن يكون الرد الإسرائيلي هو حربٌ شعواء لإبادةِ قطاع غزة، وأن تصل الأمور إلى احتمالية تهجير السكان -طوعاً أو كُرهاً- إلى خارج البلاد، بما في ذلك مشروع “التوطين” القصري داخل سيناء.
ومع تعثر إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وتراجع قدراتها على تحقيق الأهداف التي اطلقتها، وانحسار الدعم الدولي وخاصة الأوروبي لها، واتضاح صورة “العسكرة” الإسرائيلية الغاشمة، واللجوء إلى استخدام القدرات التدميرية الهائلة التي سخَّرتها حكومة نتنياهو، لاستعادة مشهديتها التي روَّجت لها لأكثر من خمسين سنة بقوة جيشها الذي لا يقهر، إذ تبين بعد أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر أنها ليس اكثر من كذبة افتراها الصهاينة، وسوَّقت لها بحرفيِّة إعلامية عالية ماكينة إسرائيل الدعائية (الهاسبرا)، وكان أن صدَّقها -للأسف- مغفلو العرب، حيث تمكنت إسرائيل عبر هذه الماكينة من الترويج لمقولة “الجيش الذي لا يقهر”، رغم خسائرها العسكرية في حروبها مع مصر عام 1973، وكذلك في لبنان عام 2006، إلا أن الجرأة في الكذب والتسويق الإعلامي جعل الكثير من أبناء أمتنا يُصدِّقون مثل هذه الدعاية إلى درجة الاستسلام، بل والتسليم بأنَّ مغالبة إسرائيل عسكرياً هو محاولة “انتحار وجودي”، مما أدَّى بالبعض إلى الهرولة لتطبيع العلاقة معها، بغرض محاباتها وخطب ودّها، وقد اعانتها على ذلك قوىً استعمارية أخرى، بعدما أصاب العرب والمسلمين حالات من التصدع والتجخية أذهبت ما لهم من هيبة وعزَّة، وجعلت كلّ دولةٍ تفكر -فقط- في مصالحها الذاتية على حساب المصالح القومية للأمة.
ومع تحفظنا على دوافع ما أعلنته حركة حماس من وراء عملية “طوفان الأقصى”، والتقديرات لعواقب تلك العملية، من حيث طبيعة الرد الإسرائيلي، وموالف الدول الغربية المتواطئة معها وخاصة أمريكا، إلا أنَّ العملية المباغتة في السابع من أكتوبر، وحجم الخسائر البشرية في الطرف الإسرائيلي، قد نجحت في كسر هيبة إسرائيل، وأظهرتها بأنها “دولة أوهى من بيت العنكبوت”.
إنَّ ما حدث في السابع من أكتوبر هو ما سيبقى حيَّاً في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، كما أنَّ هناك أيضاً نبضاً سيظل يُنعش هذه الذاكرة وهو أنَّ إسرائيل رغم عظمة قوتها العسكرية وحرب “الإبادة الجماعية” التي اعتمدتها كنهج لإرهاب الفلسطينيين، لم تنجح في كسر إرادة المقاوم الفلسطيني، ولم تنه وجود فصائله التي حطمت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
في الواقع، إنَّ إسرائيل واجهت في الميدان من جدعوا أنف جيشها ومرغوه في تراب غزة وخانيونس وبيت حانون، إلا أنَّ فارق الإمكانيات العسكرية لصالح إسرائيل وخاصة طيرانها الحربي، قد مكَّن قواتها من التوغل داخل قطاع غزة، فيما كانت حركة حماس وكتائب القسَّام قد راهنت -وربما بالغت كثيراً- على “وحدة الساحات”، ووجدت من بين قياداتها العسكرية من كان يروِّج لها بأنَّ ذلك سيكون “حقيقةً لا خيالا”، فتحركت قوات النخبة القسَّامية كرأس حربة لطلائع أمةٍ كانت حسابتها تشي بأنها ستلحق بها، إلا أنَّ الذي ظهر بعد العملية البطولية قد كشف المستور، وأنَّ ذلك الرهان على “وحدة الساحات” لم يكن أكثر من شعارٍ حالمٍ لأمة لم تتعافَ من فُرقتها وتشرذم سياساتها، وأنَّ من تحرك منها فإنَّ جهوده لم تتجاوز وضعية المشاغلة، وربما التحذير من مغبة استمرار هذه الحرب والتهديد باتساع نطاقها الإقليمي.. وهذا ما عبرت عنه العمليات التي قامت بها جماعة أنصار الله من الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان.
ومع كلِّ التقدير للتحركات الشعبية في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنَّ السياسات الغربية الاستعمارية واللاإنسانية لم تكترث كثيراً بكلِّ ما يجري في حواضرها من تظاهرات احتجاجية واسعة، مطالبة بوقف الحرب العدوانية على قطاع غزة.
إنَّ حالة الصدمة والذهول التي أصابت الفلسطينيين، لم تكن بسبب حجم التواطؤ الرسمي الغربي مع إسرائيل فقط، ولكن أيضا من فضاءات الصمت الرسمي والشعبي عربياً وإسلامياً،
وكذلك حالة العجز من التوصل إلى قرارٍ يتسم بالثقل الرسمي والشعبي والأممي، الذي يمكن أن يُعجِّل بوقف الحرب، ويُشكِّل ردعاً قوياً لإسرائيل.
في الحقيقة، إنَّ هذه الحالة من الصمت المخزي لأمة العرب والمسلمين هو ما يجعل أهل فلسطين يطلقون صرختهم التاريخية “يا وحدنا”، وغيرها من صرخات القهر والمظلومية، كتلك التي نظمها مفكرون وشعراء عرب كردةِ فعلٍ لحالة الإحباط والتخاذل وصمت القبور التي ظهر عليه حال الأمة، ولعل صرخة مظفر النواب “أولاد القحبة لستم عرباً” كانت هي الأكثر وضوحاً وانفعالاً وقسوةً في ترديدها، كتعبير عن تلك الحالة، فيما كانت توصيفات أخرى، مثل: “يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم”، تأخذ طريقها إلى ألسنة الفلسطينيين.
إنَّ قدر الفلسطينيين أنهم يقاتلون بصدورهم العارية، وامكانياتهم الذاتية المحدودة، وبما يمتلكونه من الشجاعة والجرأة والعزيمة والوعي برؤية “ادخلوا عليهم الباب” بكل ما تعنيه في سياق الغلبة والتمكين. لذلك، وجدناهم وفي السابع من أكتوبر يصنعون معجزةً لم يكن أحد يتوقعها. ومع وقع تلك المفاجأة العسكرية، احتشد العالم الغربي الظالم خلف إسرائيل، وأطلق يدها لإبادة الفلسطينيين، حتى لا تسقط الأسطورة ويتكشف سراب الادعاء بأن دولتهم التي صنعوها وألبسوها ثوب العظمة في المنطقة، من حيث القوة العسكرية ليست أكثر من نمرٍ من ورق.
لإخواني في المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، إنَّ قدرنا هو أن نقاتل لردِّ كيد المعتدين، وعلينا ألا نُعلِّقَ أملاً بغير الله سبحانه، وان نتذكر دائماً وأبداً دلالات المعنى الكبير في النص القرآني: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا”.
ختاماً.. في مشهدية الميدان وأرض المعركة، ما زال الفلسطينيون يقاتلون ببسالة، وإن كانت هناك أخطاء قاتلة في بعض الاجتهادات، وسوء تقديرات لعواقب وطبيعة الرد الإسرائيلي، إلا أنَّ هناك دروساً وعبراً كثيرة سنخرج بها لمعركة “وعد الآخرة”، وهي أن علينا كعرب ويهود ومسيحيين أن نحيا جميعاً على هذه الأرض في أمن وسلام، وإلا فإن معادلة من يسوم هؤلاء الغزاة الصهاينة “سواء العذاب” ستظل قائمة.
إنَّ صرخة “يا وحدنا” تفرض علينا كفلسطينيين أن نوحد الرؤية والجهد والعمل على اجتماع الشمل، وأن نقاتل صفاً واحداً كالبنيان المرصوص.
ولإمتنا العربية – الإسلامية في صمتها وخذلانها الرهيب، نقول: أفيقي يا بقايا أمةٍ كانت عظيمة.