سليم يونس الزريعي
أمد/ إن أحد المؤشرات الأولية الهامة في حكم محكمة العدل الدولية هو قرار رد طلب النظر في دعوى الإبادة الجماعية لأهل غزة من قبل جيش الاحتلال التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وتطالب بوقف لإطلاق النار كون كيان الاحتلال يقوم بجرائم إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين خلال الحرب الدائرة على غزة؛ تحمل قيمة قانونية هامة ترتكز إلى قواعد القانون الدولي الإنساني والجنائي.
واللافت أن المحكمة اعتبرت أنها صاحبة اختصاص أصيل في نظر الدعوى، بل وعرضت كم كبير من المعطيات، سواء في جانبها المعنوي أو المادي التي تسمح للمحكمة قانونيا قبول الدعوى والنظر فيها موضوعيا.
ولا شك أن حكومة جنوب أفريقيا ما كانت لتقدم على رفع هذه الدعوى دون معرفتها اليقينية بتوفر ركني جريمة الإبادة الجماعية المعنوي والمادي وهي قضية محكمة موثقة في جانبيها المعنوي والمادي .
وهناك حشد كبير من التصرفات والأقوال والتهديدات الموثقة تؤكد توفر الركن المعنوي، أي القصد الجنائي في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، عبر عنها أشخاص في المستوي السياسي والأمني والعسكري لكيان الاحتلال ، وهي تعبير عن إرادة أساسها قناعة أيدلوجية فكرية ودينية بنفي الفلسطيني، وكان قد عبر عن هذه الذهنية أي الإبادة، إسحاق رابين رئيس الوزراء الأسبق الذي قال عام 1992 ” أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”.. وذلك قبل أوسلو وها هي ذهنية النفي المادي تستمر بعدة، كدعوة وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، ؛ وتصريحات وسلوك قادة جيش الاحتلال في التحريض واعتبار سكان قطاع غزة حيوانات بشرية لا تستحق الحياة، وهي دعوة لتعامل الجيش مع السكان في غزة دون الأخذ في الاعتبار القانون الدولي الإنساني أو اتفاقية جنيف الرابعة أو أي معيار أخلاقي أو إنساني في تحريض صريح على النفي المادي لأهل القطاع دون تمييز.
ويتوفر ركن جريمة الإبادة الجماعية في جانبه المادي في التهجير القسري للأطفال والأهالي وقتل أبناء الشعب الفلسطيني وإخضاعه إلى ظروف معيشية لا إنسانية بتجويع المدنيين وقطع إمدادات الماء والغذاء والدواء.
ومع أن المحكمة لم تصل إلى حد الأمر بوقف إطلاق النار في غزة كما طلبت جنوب أفريقيا في دعواها، لكنها أصدرت ستة إجراءات مؤقتة تريد من الكيان الصهيوني أن يتخذها بينما تنظر لجنة مكونة من 17 قاضيا في اتهامات الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل من جنوب أفريقيا.
وطالبت كيان الاحتلال بالحد من عدد القتلى والأضرار الناجمة عن هجومها العسكري على القطاع الساحلي الصغير. كما طلبت من الكيان الصهيوني أن يبذل كل ما في وسعه لمنع وقوع أي أعمال إبادة في قطاع غزة.
وتدعو الأوامر الكيان لاتخاذ جميع الخطوات في حدود سلطته لمنع وقوع إبادة جماعية، والتأكد من عدم تدمير أي دليل يمكن أن يشير إلى إبادة جماعية، و”منع ومعاقبة التحريض العلني” الذي يمكن أن يشجع على الإبادة الجماعية.
كما يتعين عليه أيضا أن يتخذ “تدابير فورية وفعالة لضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لإصلاح الظروف المعيشية السيئة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة”.
ولما كان من المبكر التكهن كيف ستتجه الأمور فيما يتعلق بالحكم في الموضوع، أي في الركن الموضوعي من جريمة الإبادة؟ الذي سيستغرق وقتا طويلا ، يعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، “حكم المحكمة يتفق أيضا مع وجهة نظر الكيان عندما يقول: بأن لإسرائيل الحق في اتخاذ إجراءات لضمان عدم تكرار الهجمات الإرهابية التي وقعت في السابع من أكتوبر وفقا للقانون الدولي”.
لكن جملة التقييدات التي طالبت بها المحكمة هي بمثابة وضع الكيان الصهيوني تحت المراقبة كمتهم بالإبادة الجماعية ، وهي حقيقة مؤكدة، بصرف عن الديماغوجيا الصهيونية والموقف الأمريكي الذي عبر عنه متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية معقبا على قرار المحكمة عندما قال: “ما زلنا نعتقد أن مزاعم الإبادة الجماعية لا أساس لها من الصحة، ونلاحظ أن المحكمة لم تتوصل إلى نتيجة بشأن الإبادة الجماعية أو تدعو إلى وقف إطلاق النار في حكمها، وأنها دعت إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن المحتجزين لدى حماس”.
ولأنها المرة الأولى على الأقل التي يواجه فيها كيان الاحتلال العدالة الدولية، فإن هذا في حد ذاته إنجازا يجب مواصلته كجزء مهم وأساس من النضال القانوني ضد المحتل الصهيوني، ووضع حد لأن يكون الكيان فوق القانون .
لكن حتى لا يكون هناك مبررا لاستخدام العدالة ضد قوى فلسطينية، هنا يصبح التعامل بمسؤولية يحتاج إلى وزن السلوك والتصرفات، وفق مسطرة قانونية كي لا يكون الشعب الفلسطيني ضحية بعض التصرفات أو الموقف الأيديولوجية والشعبوية للبعض التي تضر ولا تنفع مهم جدا ، بعيدا عن خفة البعض السياسية والفكرية، كون الثمن الذي دفعة وما يزال أهل القطاع باهظ جدا، وأن تأخذ قوى المقاومة في اعتبارها، أن صبر أهل غزة ليس بدون حدود. فيما هو محاصر بين ناري الموت حرقا أو الموت جوعا، في وقت تتحدث فيه التقارير، أن الموت جوعا بات في غزة حقيقة، أكدتها لمن يصم الآذان عن ذلك منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”.
هذا الواقع ربما هو الذي جعل مئات المتظاهرين في مدينة خانيونس بقطاع غزة، يخرجون يوم الجمعة 26 يناير/ كانون الثاني، مطالبين رئيس حركة حماس يحيى السنوار ورئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو بوقف الحرب الدائرة التي دمرت القطاع بالكامل. ويظهر في مقطع فيديو حديث جرى تداوله المتظاهرون وبينهم نساء وأطفال وهم يحملون لافتات مكتوب عليها “الشعب يريد إيقاف الحرب”. وسط هتافات يا نتنياهو ويا سنوار.. نتنياهـو ويا سنوار.. بكفي حرب وبكفي دمار”
إن هذا التطور يجب قراءته بمسؤولية بعيدا عن أي أفكار مسبقة، وربما حتى استحضار نظرية المؤامرة، كون الواقع يقول إن أهل غزة المحاصرون منذ ستة عشر عاما، قد تحملوا ما لا طاقة لهم به، وإنه لمن المعيب أن يجري التعامل مع أهل غزة وكأنهم أشياء يمكن المقايضة بهم في هذه الحرب، بثمن سياسي أو خلاص فردي أو حزبي، لأنه بعد استشهاد وفقدان عشرات الآلاف تصبح ذريعة تبييض السجون بلا معني، إذا كان الثمن حتى الآن، هو 100 ألف بين شهيد ومفقود ومصاب، أي ما يقارب 4.5 في المائة من سكان القطاع في أقل من أربعة أشهر.