سليم يونس الزريعي
أمد/ لاشك أن النخب السياسية والفكرية والأمنية في الكيان الصهيوني يدركون، أن زرع الحركة الصهيونية كيانها في فلسطين، لم يكن دون تواطؤ غربي استعماري، مدجج بخرافات المسيحية الصهيونية عن العودة لصهيون والشعب المختار.
إلا أن أحد مفارقات كيان المستجلبين الصهاينة في فلسطين، الملازمة لزرعه هي في حالة الشك ومنذ البدء في استمرار وجوده في الواقع، ارتباطا بانكشاف كذبة أن فلسطين أرض بلا شعب، للشعب الذي بلا أرض. بما يعنيه ذلك أن استمرار وجود المشروع الصهيوني في فلسطين سيكون محل شك طالما بقي الفلسطينيون في وطنهم، أي أن الخراب الثالث كما يعتقدون سيحل بالكيان الصهيوني.
ومفهوم الخراب الثالث في الفكر اليهودي الراهن، هو معادل لانهيار الدولة؛ والبيت الثالث يمثله الآن الكيان الصهيوني، وقد سبقه «البيت الأول» الذي دمّره، كما جاء في الرواية التوراتية، نبوخذ نصّر ملك بابل سنة 586 ق.م، و»البيت الثاني» الذي قضى عليه تيتوس ابن إمبراطور روما، سنة 70 ميلادية.
وقد كتب الجنرال أيهود باراك رئيس حكومة الكيان الأسبق في مقالة له نشرت عبر صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية أنه: “خلال التاريخ اليهودي فإنه لم تعمر لليهود دولة لأكثر من ثمانين سنة إلا في فترتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وفي كلا الفترتين فإن بداية تفكك كليهما كانت في العقد الثامن”. وأضاف قائلاً: “تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن وأنه يخشى أن تنزل بها لعنـة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها”.
وهو ربما يشير إلى عدم نجاح الحركة الصهيونية في إلغاء العامل المقرر في هذا الخراب وهو الوجود الفلسطيني، لأنه العائق أمام استمرار الكيان، كونه هو صاحب الأرض، وهو من ثم التناقض الأساس الذي سيعمل موضوعيا على حل هذا التناقض لصالحه، أي دفع هذا الكيان إلى الانهيار ووضع حد لهذا الوجود الاستيطاني الكولنيالي الصهيوني في فلسطين.
هذا الشك وعدم اليقين، لا يندرج في إطار الاستنتاج أو التحليل، فهو مستقر في وعي ولا وعي النخب السياسية والفكرة والثقافية، ويجري التعبير عنه في أقوال وكتابات المسؤولين والمثقفين اليهود، وهو بمنزلة اليقين دينيا، من أنه لن يكون هناك أي شعور بالاستقرار للمشروع الصهيوني في فلسطين دون حل هذا التناقض عبر الطريق الأصعب، أي بنفي الشعب الفلسطيني فكرة وواقعا، وهو ما فشلت فيه الحركة الصهيونية منذ عام 1948، وعوض حل التناقض لصالح مشروع الحركة الصهيونية التي تملك ترسانة عسكرية بما فيها السلاح النووي، كشفت أحد نتائج طوفان الأقصى أن الكيان الصهيوني فقد أهم سلاح لديه وهو قدرة الردع، الذي كان وراء تهافت بعض الدول العربية لإقامة علاقات طبيعية معه، مع أنه يحتل فلسطين، وهضبة الجولان السورية، ومزارع شبعا اللبنانية.. وهذا ما جعل الوزير السابق يوسي بيلين ينعى قدرة الردع الصهيونية في مقال له في صحيفة إسرائيل اليوم، أكد فيه أن من يعتقد أنه بعد بضع سنوات، في ذات يوم صاف، حين “يسمح لنا” بالعمل ضد هذه المنظمة الإجرامية، سننهض ونسحقها – يوهم نفسه” .
هذا اليقين بفقدان الكيان مكنة التفوق الميداني عند يوسي بيلين أحد مهندسي اتفاقية أوسلو هو في تقديري بمثابة اعتراف بتعديل في ميزان القوى، ليس بمعنى الكم أو الكيف، ولكن بتحييد استخدام ممكنات القوة لدى الكيان عبر وسائل كفاح تناسب شرط الكفاح الفلسطيني وميزان القوة القائم لديه.
وهذا هو الذي أدى إلى ما يمكن القول إنها عملية انتقال تدريجي للمبادرة في عملية النفي إلى يد الشعب الفلسطيني؛ الذي أكد قدرته على التجدد والميلاد من جديد بعزم أقوى على تفكيك المشروع الصهيوني في فلسطين، عبر الظاهرة الكفاحية متعددة الأساليب من أجل تحقيق التحرير والعودة.
وقد تجلى ذلك في معركة سيف القدس 2021، وطوفان الأقصى2023، كفعل وفكر عسكري فلسطيني، وفي حالة الاشتباك المستمرة في الضفة الغربية والقدس مع جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه، وفي النجاحات السياسية والدبلوماسية على صعيد حضور قضية الشعب الفلسطيني كقضية شعب يسعي للتحرر، وهو أمر جعل الصهاينة يتحدثون عن الشك في استمرار وجود الكيان كواقع ملموس، ولم يعد مجرد هواجس لدى البعض من الساسة والمثقفين، أو ربما عصف فكري لتوظيفه في الصراع والمنافسات السياسية الحزبية، بعد تجربتي سيف القدس وطوفان الأقصى.
وهنا يجب التنبيه إلى أن حقيقة فقدان الثقة في بقاء الكيان لدي المستجلبين الصهاينة، لا يجب أن تسمح بأن تطغي حالة من بدائية الوعي الفكري والسياسي على البعض الفلسطيني، فيتصور أن تفكيك الكيان سيجري تنفيذه بمجرد “فزعة عرب”، كما صورت ذلك بيانات وتصريحات زعماء المقاومة بعد واقعة طوفان الأقصى، لأن تفكيك الكيان عملية تاريخية تراكمية؛ الجانب العسكري هو أحد أوجهها، وهو ما نبه له حسن نصرالله عندما انتقد بعض مسؤولي حماس مستوى مشاركة حزب الله في المعركة، وهو أن التحرير؛ أي تفكيك الكيان لن يكون بالضربة القاضية؛ ولكنه سيكون بالنقاط.. ضمن مفهوم التراكم وهذا يعني أنه سيجري ضمن عملية تراكمية تتعدد فيها الجولات ضد الكيان الصهيوني حتى تفكيكه.
لكن ذلك لن يكون في ظل حالة الانقسام السياسي والجغرافي وذهنية الاستحواذ ونفي الآخر لدى بعض القوى الفلسطينية، وإنما هو رهن بوعي فلسطيني متقدم له علاقة بوحدة الأداة والعمل الفلسطيني، من خلال رؤية سياسية كفاحية واحدة شاملة تتجاوز ذهنية الفصيل، نحو أن فلسطين في كليتها هي الحزب أو الجماعة، عوض أن يكون الحزب أو الجماعة هم الوطن، وهي وحدة يجب أن تمثل الكل الفلسطيني كشرط مقررـ
وهذا يشترط مغادرة ذهنية أن عملية التحرير بتعقيدها وشمولها في الفكر والممارسة، هي مشروع حزب أو جماعة أو منطقة، وإنما هي مشروع الكل الفلسطيني من خلال مؤسسات يقررها مجموع الشعب في كافة أماكن تواجده عبر منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل الجميع؛ بعد أن تعاد هيكلتها التنظيمية لتمثل وحدة حقيقية دون استحواذ أو نفي على أساس القواسم الوطنية المشتركة في التحرير والعودة.
وهذا في اعتقادي هو المعادل الشرطي المحرض في الجانب الآخر، من شأنه أن يفاقم عملية الشك في استمرار المشروع الصهيوني لدي المستحلبين الصهاينة ويسرع في نضج وتسريع عملية انهيار الكيان.