عائد زقوت
أمد/ نلاحظ بعد مرور أربعة أشهر على الحرب في غزة تزايدًا متدحرجًا من قِبل واشنطن ولندن وتَبِعها العديد من العواصم الأوروبيّة فيما يتعلّق بالتّصريحات البرّاقة الخاطفة للأبصار، والمُدغدِغة لعواطف العرب والفلسطينيين حول حتميّة إعداد وتنسيق أفقًا يسمح بالاعتراف بدولة فلسطين في إطار الرؤية الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة العربية.
من نافلة القول أن المشروع الصهيوني تَأسّس ليستمر، ولتحقيق غاية أطلسية امبريالية في المنطقة العربية مُنطَلِقًا من فلسطين، ولا بدّ من إدراك أن هذه المهمة الاستعماليّة لهذا المشروع لن تنتهي أو تتوقف عند مرحلة ما لمجرّد المطالبة بإنهائها من خلال الرّهان على الحشودات الشعبية حول العالم، أو برفع دعوى بمحاكمة اسرائيل، أو المطالبة بقيام دولة فلسطينية، فكافّة هذه الرهانات لن تُجدي رغم أهميتها وإيجابيّتها؛ فالدولة الفلسطينية مرهونة بدايةً بتراجع أميركا، وتراجع هيمنتها، ومن ثم بتعاظم الدوْر العربي.
قراءة المشروع الامبريالي في سياقه الجغرافي والتاريخي يضعنا أمام حقيقة ثابتة أن الاعتقاد بأن المناورات الغربية والاسرائيلية المتعلقة بالحديث حول الأفق السياسي للفلسطينيين هو مقدمة لإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة؛ هو اعتقاد يجانبه الصواب، لأن إعطاء دولة فلسطينية يعني ببساطة حسب الرؤية الامبريالية الأميركية تهديد الدولة الصهيونية الدينية، وتحييد الدور الاستعمالي التي نشأت من أجله اسرائيل.
في ضوء تلك القراءة يأتي الطرح الانجلوسكسوني بالتمهيد للاعتراف بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، منقوصة السيادة على أراضٍ من الضفة الغربية وقطاع غزة دون القدس، بحيث لا تمتلك هذه الدولة أسلحتها الخاصة خلال الخمسين سنة المقبلة، ولن تمارس سيادتها الأمنية على حدودها، بل ستحصل على السيادة المدنية الكاملة على أراضيها إلى أن يستقر الوضع الأمني، وبعد ذلك باتفاق الطرفين، قد تكون هناك تغييرات في هذا الشأن.
قد ينبري بعض المُدَّعون والقوَّالون، والمتسيّسون؛ بالادعاء أن هناك تغييرًا استراتيجيًا طرأ على السياسة الأميركية في المنطقة العربية أحدثته الحرب على غزة، وبناءً عليه يجب أن نستثمر هذا التغيير للدفع نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة غير منقوصة السيادة، ولأجل توفير شيء من المصداقية لهذه الأقاويل، وتقديم براهين على صحّة هذه المزاعم تتمثل في تبنّي الولايات المتحدة خطة لتحقيق الهدف المأمول، وتتضمّن قواعد وأسس واضحة ترتكز على أولًا دعوة صريحة من واشنطن ومجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية وفي القلب منها القدس الشرقية، ثانيًا تغيير صفة دولة فلسطين في الأمم المتحدة من دولة بصفة مراقب إلى دولة كاملة العضوية، ثالثًا تجميد ووقف الاستيطان وتفكيك البؤر الاستيطانية التي قطعت التواصل بين المحافظات الفلسطينية، رابعًا إلغاء القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل، خامسًا تحديد مدى زمني لا يتجاوز السنتين أو الثلاث سنوات لإنها المفاوضات والتفاهمات حول كافة القضايا المشتركة بين الدولتين؛ دون تحقيق ذلك والذي أظن أنه لن يتحقق، سنبقى غارقون في وحْل الأكاذيب والأضاليل التي عَمَرت عقولنا.
يتبادر إلى أذهان الكثيرين أن عدم إعطاء الفلسطينيين دولة ذات سيادة هو تهديد مستمر لأمن المنطقة الشرق أوسطية بأسرها، بل ويهدد بقاء دولة اسرائيل، هذا التصور يتناقض كليًا مع الاستراتيجية الإسروأميركية القائمة على استمرار حالة اللّا سلم واللا حرب وإشاعة مناخ عدم الاستقرار في المنطقة باعتباره الضامن لبقاء اسرائيل.
وفي هذا السياق وعلى الرغم مما تواجهه اسرائيل من تفاعلات معقدة وتحديات دبلوماسية، وسياسية، واقتصادية داخلية وخارجية؛ فإنّ هذا لا يعني ضرورة وجود تحوّل استراتيجي في السياسة الإسروأميركية في المنطقة العربية، فكما هو ملاحظ تعمَد اسرائيل وأميركا على تسخين كافة الجبهات وأهمها الجبهة المصرية حول محور صلاح الدين والمنفذ البري بين قطاع غزة ومصر، حيث تعمد اسرائيل لإحداث تغيير جيو حركي بنقل موقع الممر البري من موقعه الحالي إلى منطقة معبر كرم أبو سالم في المثلث الحدودي بين مصر وقطاع غزة واسرائيل، لإطباق الحصار على غزة، وكذلك لا زال الإصرار الاسرائيلي قائمًا لإحداث تغيير جيوسياسي عبر امتداد العملية العسكرية إلى منطقة رفح حيث مأوى أكثر من نصف سكان قطاع غزة، وثَمَت وضع الفلسطينيين بين خيار الموت أو دورة جديدة من التهجير والتشريد عبر بوابة سيناء المصرية؛ مما يستدعي موقفًا مصريًا خشنًا يضع العلاقات المصرية الاسرائيلية على المِحك خصوصًا، بل ويضع علاقات دول الاعتدال العربي عمومًا وأميركا على مفصل تاريخي.
خربشة : تحوّل المعركة في غزة إلى رهانات على المواقف الدولية، والمحاور، والمحاكم الأممية، وبعضًا مما تحققه المقاومة من تفوق نوعي تكتيكي على الأرض؛ وأن الحرب في غزة غير قابلة للحسم العسكري مثلها مثل أي حرب يخوضها جيش نظامي مع منظمات مسلحة؛ واعتبار الشعب في غزة خَلْقًا آخر مُؤَنْسَنْ يستطيع احتمال مالم يحتمله أصحاب النار؛ فهذا سياق لن تستطيع حركات المقاومة من خلاله تحقيق اختراق استراتيجي فيه، ويؤكد أيضًا على أن هناك اختلال كبير في مسار المعركة ليس في صالح حركات المقاومة؛ ولن يغير في الميزان الاستراتيجي لهذه الحرب، لذا ينبغي على صانعي القرار إدراك أن بقاء الشعب على أرضه حيًا قويًا هو رأس مال الحفاظ على القضية الفلسطينية، وحفظها من التيه في أروقة الأجندات الحزبية، والتحالفات غير المتكافئة؛ وأيضًا حفظها من التذويب والانصهار في براثن الصفقات السياسية الملعونة فيما عرف بصفقة القرن أو غيرها، وإن لم يكن هناك حلًا يحفظ حقوق الفلسطينيين .