محمد المحسن
أمد/ “المثقف هو حامي قيم الخير والعدل والحرية،المدافع عن المظلومين وحقهم بحياة حرة كريمة. ولا يمكن أن يصبح يوما في جوقة الظلمة ومواكب المنافقين،متناقضا مع ما كان يبشر به الناس”
-إن ثقافة “كن بين يدي شيخك كالميت بيد مُكَفنه”،هي نفسها ثقافة “نفذ ثم ناقش”
تصدير: ربما لم تعش مجتمعات النخبة العربية “الانتلجنسيا”حالة انكشاف وتعر أخلاقي قيمي،كما هو حالها اليوم في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المنطقة العربية،خاصة أن تأتي هذه المرحلة عقب واحدة من “أعظم ثورات العرب” إبهارا للعالم بسلميتها ومدنيتها ووضوح أهدافها المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.
سجال تسفيهي وجدل عقيم تذكيه أزمة المثقف العربي : من المؤسف حقا أن يقبل المثقفون العرب بتوزع ولاءاتهم لتغذي خلافات الأنظمة والحكام في وطنهم،وهم كتلة الوعي الفاعل في الأمة،وأحد أهم مصادر قوتها وتأثيرها وتدبيرها إذا ما جمعوا على وحدة الموقف ووحدة الهدف والرؤية،إلا أنهم ابتعدوا عن هذا وانبهروا بالعقل الغربي،محتقرين العقل العربي ومنجزاته،فزادوا من اتساع الشرخ الثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي بدرجات لا تتفاوت كثيرا من جماعة عربية إلى جماعة عربية أخرى،وبدلا من منطقة وسط يأخذ فيها المثقف العربي ما يتناسب مع ثقافته العربية،وتراثه المجيد،نجد الغالبية تعيش الثنائية بكل تناقضاتها وفصامهاـما أدى إلى أزمة يعيشها المثقف العربي العلماني،والنهضوي،والسلفي والإسلامي على حد سواء..!
وهنا أشير إلى أن أزمة الثقافة والمثقفين العرب هي اليوم أخطر من أي وقت مضى،ذلك أنها بدأت تهدد وجودهم وكيانهم،فالخطاب التسفيهي والجدل العقيم هو الذي يحكم فكرهم وحوارهم،كما أن مصطلحات التكفير والتخوين والتأثيم هي سيدة خطاباتهم..
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:
هل سيبقى المفكرون العرب على ماهم عليهJأم تراهم سيحققون مناخا ثقافيا وفكريا يحقق سموهم وارتقائهم الحضاري،وينتزعهم من الواقع المزري الذي وضعوا أنفسهم فيه؟
وهل باستطاعة المثقفين العرب أن يخلقوا دورا ورؤية في عالم كل مافيه متغير وسيبقى متغيرا؟
أمل كبير يبنيه الشارع العربي على مثقفيه ولكن هل سيكون المثقفون العرب أهلا للمسؤوليات الملقاة على عاتقهم وأهلا لما يعلقه الشعب عليهم من آمال؟
إن ثقافة “كن بين يدي شيخك كالميت بيد مُكَفنه”،هي نفسها ثقافة “نفذ ثم ناقش” ثقافة خضوع وعبودية واستعباد بمسميات مختلفة،ثقافة واحدة تلغي الحرية ولا تحترم العقل بل وتلغي وجودهما،وهي قيد للعقل وخصي للإبداع،هي ثقافة صناعة العبيد،والعبد ألة إنتاج،وليس عقلاً مبتكراً أو مبدع،هي ثقافة تستهلك الحضارة ولا تنتجها،تقود المنتسبين لها للخروج من الحضارة بل ومن الوجود ذاته .
أزمة الثقافة العربية بكل مكوناتها هي أنها تستخدم نفس أدوات التراث المعرفية التي أنتجت ذات التراث المعيق والمغلوط أياً كان مسماه،فقهي قومي يساري ليبرالي،وهي هنا تُعيد إنتاج نفسها بصور مختلفة وتسميات جديدة،معتقدة أنها أحدثت تجديداً وتغييراً ثقافياً بينما هي لا تزال أسيرة ذات التراث.
وللخروج من هذه الإشكالية ( الأزمة ) على العقل العربي أن يعيد قراءة تراثه الفقهي والحزبي،بمعارف عصره وأدواتها المعرفية وإشكالياته المعاصرة،ليصيغ ثقافة جديدة تُعيد صياغة العقل العربي بِمُكَون معرفي جديد يجعل للعقل والحرية حيّز وتأثير،هنا فقط يستطيع العقل العربي الخروج من أسر التراث لينتج ثقافة عصره وحضارته.
إغتراب المثقف:
التجارب التاريخية في وطننا العربي تشير الى مرض الاغتراب والتهميش والاقصاء الذي عانى ومازال يعاني منه المثقف العربي عبر الاجيال والعصور،ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الانسان،كلها عوامل ادت الى اغتراب المثقف العربي وتهميشه..
واليوم..
اصبح المثقف اليوم-غريبا في وطنه-لا يتعرف عليه ولا يتفاعل معه كما ينبغي لانه اذا فعل ذلك مصيره يكون مجهولاً،أو أننا نجده يلجأ الى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجالاً للتفكير والابداع،لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف بمثابة الموت البطيء.
والمثقف مهما كانت الصعاب والمشاق والمشاكل والعراقيل يبقى دائما مسؤولا ازاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها،وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الانسانية النبيلة،ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للفكر والابداع.
اشكال آخر مهم جدا ضمن سياق ظاهرة اغتراب المثقف يتمثل في الرقابة الذاتية وممارسة الانسلاخ الإرادي والمباشر من المجتمع والعيش في ضفافه وقشوره،وهذا موت بطيء أخر يعاني منه المثقف العربي وهو نوع من الانتحار،حيث لا يستطيع المثقف ان يجرؤ على التعبير عما بداخله ولا يستطيع ان يضع افكاره في خدمة المجتمع وفي خدمة المهمشين والمحرومين.فالإشكال هنا يتمثل في التقرب من السلطة وهذا يعني بعبارة اخرى الانسلاخ عن الجماهير،أو التقرب من الواقع ومن الجماهير،وهذا يعني غضب السلطة على المثقف واسكاته او تهميشه بطرق مختلفة،البعض منها معلن والبعض الاخر سري وضمني.
وفي كل هذا نجد ان المجتمع في نهاية المطاف هو الخاسر الكبير لأن المجتمع الذي لا يملك نخبة من المثقفين العضويين-مع الإعتذار لغرامشي-ونخبة من المفكرين تنظر وتنتقد وتقف عند سلبياته وهمومه ومشاكله وتناقضاته وافرازاته المختلفة،لا يستطيع ان يكون مجمتعاً يتوفر على شروط النجاح والابداع والتحاور والنقاش البناء والجاد بين مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية.وآليات الاتصال داخل المجتمع مهمة جدا،فكلما كانت مرنة وسلسة ويسيرة كلما نجم عنها التفاهم والوئام والوصول الى الافكار النيرة.لكن كلما تعقدت آليات الاتصال والتواصل في المجتمع وكلما اصبحت عسيرة ومفتعلة ومتملقة ومنافقة كلما زادت مشاكل المجتمع وتفاقمت،وكلما زاد سوء الفهم وانعدم التفاهم والحوار واحترام الآخر.
هذا ما يقودنا للكلام عن الثقافة التي افرزتها القوى المختلفة في المجتمع،فهذه الثقافة هي بكل وضوح ثقافة التبرير والتملق والتخدير والتزييف،وكأن الهدف في نهاية المطاف هو تجهيل الرأي العام وتخديره بدلا من توعيته والرقي به الى مستوى الفعل والمشاركة في صناعة القرار وفي تحديد مصيره ومكانته بين الشعوب والأمم.
وهنا أسأل:
ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟
أسئلة تفرض نفسها في وطننا العربي وخاصة في الازمات المتعاقبة والعويصة التي تعيشها الأمة العربية من المحيط الى الخليج.
في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته وعن الدور الموكل اليه.ولماذا نتكلم دائما في وطننا العربي عن ازمة المثقف؟ لماذا مثلا لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع (مع الإعتذار ثانية لغرامشي)،المثقف الحقيقي الذي ينتقد ويقف عند هموم وشجون المجتمع،المثقف الذي يعمل على تغيير الواقع وليس تكريسه،المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر والرأي العام،المثقف الذي يحضر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الانساني والحضاري والتفاعل الايجابي مع ما يحدث في العالم؟!
في البداية يجب الاشارة الى ضرورة النظر الى المثقف كجزء فرعي من نظام كلي وهو المجتمع،ونتساءل هنا هل المثقف ينتج المجتمع أم انه جزء من المجتمع؟ فالمثقف عادة ما يكون مرتبطا بواقعه وبمجتمعه يتفاعل معه،يؤثر ويتأثر به.لكن الاشكالية التي تطرح هنا تتمثل في ماهية وطبيعة العلاقات التي يقيمها المثقف مع الجهات المختلفة الفاعلة في المجتمع.
وهنا نقف عند علاقة المثقف بالسلطة،هل هي علاقة تملق وذوبان في هذه السلطةـأم انها علاقة احترام متبادل وبذلك امكانية التأثير وابداء الرأي والاختلاف وصولا الى علاقة التضاد؟!
وإذن..؟
ما هي إذا علاقة المثقف العربي ببيئته؟أي علاقة المثقف بالسلطة وعلاقة المثقف بالجمهور وعلاقة المثقف بالقضايا اليومية للمجتمع وعلاقة المثقف بالقضايا الطارئة.
ففيما يتعلق بعلاقة المثقف بالسلطة بقيت الأمور على حالها رغم المطالبة بتجسير الفجوة الموجودة بينهم،والمحاولات القليلة التي سجلت كانت مع الأسف الشديد من قبل المثقفين ازاء السلطة،ومن جهة واحدة الأمر الذي يدعي الى التشاؤم والتحسر على واقع سلبي للغاية في عصر العولمة والثورة المعلوماتية.
على سبيل الخاتمة:
إن المثقف-التونسي-يعيش اليوم،أزمة خانقة تحول دون قدرته على تحمل مسؤولياته حيال تنوير السياسي والحكام بصفة عامة بآراء وأفكار وتصورات من شأنها أن تزرع الأمل والثقة والاطمئنان في نفسية التونسي التي لم تعد تحتمل الاستمرار في الصبر والصمت والرضى بما قسمه لها السياسي الحاكم،وسياساته العرجاء التي أهلكت الضرع والنسل وحركت المياه الراكدة ..
إنه لا مناص للمثقف من الاضطلاع بدوره المنوط به المعروف والمحدد في تنوير الرأي العام وتقريبه من عمق قضاياه المصيرية على كل المستويات،ومواجهة الحاكم بأسئلة محرجة ومستفزة تدفعه دفعا إلى إعادة النظر العاقل والمتعقل والديمقراطي في أولويات الشعب من سكن وخبز وكرامة وحرية وصحة وتعليم وأمن وسلام،وهي أولويات المثقف وحده من يكرس لدى السياسي الحاكم والسياسي المدبر الإيمان القوي بجدوى الاهتمام بها وبما يفرزه هذا الاهتمام الجاد والدائم من سلم اجتماعي من شأنه أن يسهم بسلاسة في تنمية مستدامة للمجتمع التونسي.
إننا بتنا نتعايش على مضض مع خرجات مثقف الأزمة،خرجات تزيده هو بعدا عن دوره الحقيقي في المجتمع،وتزيد الأزمة استفحالا إلى درجة لم نعد معها نميز بين مثقف أزمة ومثقف يعيش أزمة..وذلك لما في الوضع الأول من خنوع وتكسب ومداهنة ومهادنة مذلة،وما في الوضع الثاني من تراجع وتقهقر في وتيرة أداء مثقف اليوم.
إن الأزمة التي يعانيها المثقف العربي ترتبط مباشرة بغياب الرؤية الأصيلة التي تدفع صاحبها للنظر إلى الأشياء من موقعه الزماني والمكاني. وعجز المثقف عن التأثير في محيطه، وتطوير ثقافة مجتمعه،يعود إلى طبيعة الحلول التي يقدمها والتي لا تتوافق مع طبيعة المشكلات التي تمر بها الشعوب العربية.فإذا عجزت النماذج الليبرالية والاشتراكية والقومية والسلفية عن تحقيق نهوض اجتماعي وإحداث تنمية سياسية واقتصادية فإن من واجب المثقف الانكباب لفهم العلاقة بين هذه النماذج من جهة والقيم والمفاهيم السائدة في الثقافة العربية المعاصرة من جهة أخرى.أما تبني خطاب بعد حداثي لنقد حداثة عربية لم تكتمل ويشتد عودها،فعبث ينبغي للمفكر الجاد الترفع عنه.
من هذا المنطلق،يصح القول بأن أزمة المثقف العربي تنبع من أنه أسير ثقافة أنتجها المثقف الغربي، فهو يعيش لذلك خارج الزمن الثقافي العربي. فتراه تارة ينافح عن الرؤية الحداثية، ويتبنى أطروحاتها ورؤيتها وحلولها، وتارة أخرى يدعو إلى ثورة ماركسية تطيح بالطبقة الرأسمالية وتستبدلها بطبقة الكادحين،وتراه،حين تتعرض الرؤيتان لنقد حاد من المثقف بعد الحداثي الغربي،يتبنى الطرح الجديد، ويدعو إلى تبني نتائجه الفكرية والاجتماعية غير آبه بالتباين البيّن بين التجربتين العربية والغربية، واختلاف الزمن الثقافي العربي والغربي.
وأختم بالقول :
تجليات أزمة المثقف العربي اليوم تتمثل بحالة الانكشاف القيمي الكبير،التي سقط من خلالها كثير من أدعياء الثقافة ورموزها الذين كشفت الأزمة عن تناقضاتهم مع أبسط المسلمات الأبستمولوجية ورطاناتهم الأيديولوجية.ولا شك أن ما أحدثه”الربيع العربي”،وتجلى في عديد من محطاته في صور وأشكال شتى،ينبئ عن أزمة ثقافية وجودية ضاربة،تجلت بصورة مثقف يعيش حالة خواء قيمي وأخلاقي،سقط في أول نقطة اختبار حقيقية لإيمانه بما يدعي ويرفع من شعارات لم تكن إلا تهريجية مضللة،لتسويق ذاته المشوهة من الداخل بتناقضاته التي لا حصر لها.