بكر أبو بكر
أمد/ قد لا يفهم الانسان العاقل وهو المثقل بالمباديء والقيم والفكر كيف يتكلم المرء بلسان فصيح باتجاه معين بينما فعله المؤثر على الأرض يخالف كليًا مضامين خطابه؟ وهنا قد يبرز الجدل بين النظرية والتطبيق، أو بين اللسان وفعل الانسان أيهما أوقع كما تبرز التساؤلات من مثل: هل يحق للانسان -ولنخص للانسان السياسي- الكذب أو التضليل، أوبالحد الأدنى التبرير لأفعاله النقيضة كليًا لأقواله وخطاباته؟ وهل العملانية “البراغماتية” الذرائعية أصل بطبيعته يناقض المباديء، بل ويعقر القيم والاخلاق الجامعة وكأن شيئًا لم يكن؟
إن الأمر الذي نتخذه نموذجًا هنا يتمثل بالحالة التركية لحزب العدالة والتنمية (الاخوان المسلمين الأتراك) ورئيسه أردوغان، لإنه يقع في قلب رؤيتنا لهذه المعضلة.
وبالأخص حين نرى الاستغفال للجماهير (فالجماهيرالمصنوعة كما يرون تحصيل حاصل للتهييج والتحريض والادلجة ضمن عقلية الرعاع)، وحين نرى التناقض الفاضح بين الخطاب السياسي الناري المؤيد لفلسطين، وخاصة حاليا في نكبة فلسطين بغزة والمقتلة، وبين العلاقات التجارية شديدة المتانة والقوة والعمق مع الإسرائيلي؟! أو مع “هتلر” الإسرائيلي كما أسمى الرئيس أردوغان رئيس الحكومة الإسرائيلية “نتنياهو”؟
وتجد مثل ذلك الاستغفال، والتناقض المحيّر في أمثلة أخرى بارزة لدى عدد من قيادات الدول العربية التي تجهر بالدعم لفلسطين كلاميًا، وفي الخطابات. فيما التنسيق الاستخباري (وأحيانًا الاقتصادي، والثقافي!؟…) مع الإسرائيلي على قدم وساق! والى ذلك تقطع هذه الدول متعمدة أي دعم مادي (على الأقل منذ العام 2019) حيث لم يصل فلسًا لفلسطين!؟
وهناك من هذه الدول –المفترض أنها ترتبط مع فلسطين العربية بعشرات الوشائج-التي ألغت في قاموسها نهائيًا أطروحة أن فلسطين هي القضية الأولى للأمة، بل وقرأتُ من صُحفها من تهكم على هذه المقولة بشكل هزلي، فأصبحت قضية فلسطين خاضعة للبيع والشراء لما هو تحقيق للمصالح “الوطنية” لهذه الدولة أو تلك غير مدرك أن الأمن “الوطني”، ومعه العربي الشامل من المستحيل أن يتحقق دون فلسطين.
تجد من قادة الرأي في الإطار الأيديولوجي-العقدي مَن ينصاع كليًا فينزّه ويقدّس، وعليه يبرر أي فعل (للأمير/القائد/السياسي/الرئيس/عضو الحزب…) حتى لو تناقض الواقع أو الفعل مع كل خطاباته! ما هو سمة لازمة لمعنى الانصياع الأعمى المرتبط بقسم الولاء، وبناء عليه ونتيجة للجمود العقلاني وتأجير العقول أو سلبها أو قوقعتها في إطار “الانصياع الأعمى” يصبح تقبل التناقضات شيئًا متداولًا! بل ويتم الدفاع عنه.
ولك النظر أيضًا في الموقف القطري الرسمي الذي يقدم نفسه باعتباره الإطار الوسيط في العالم، “نحن بلد الوساطة” المحترم من كل العالم ما يتناقض مع اعتبار الإمارة أحد مقرات “محور الممانعة والمقاومة”!؟ وفي نفس القدر الذي ترتبط به الإمارة بعلاقات وطيدة مع الإيراني والإسرائيلي والامريكي!
إن كان قادة الرأي من السياسيين يتقنون فن خداع الجماهير واستهبالها (او استحمارها بمصطلح المفكر علي شريعتي) أو الكذب والدجل عليها لأسباب براغماتية أو شخصية أو اقتصادية أوحزبية استعبادية أو توظيفية للناس، فإن هذه الجماهير المأسورة للخطاب التهييجي التحريضي التجييشي والمرتبطة عقديًا او أيديولوجيًا بقوقعة أو فقاعة الأيديولوجية المغلقة تستطيع أن تحتمل مثل هذا التناقض الفظ، بفرح وسعادة!
إن الجماهير المستقطبة للرواية التهييجية العاطفية يتم دفعها بثقل الغوغائية الإعلامية، لتتجه فقط حيث تشير”القمرة/كاميرا” وحيث يشير الخطاب دون أدنى علامة على النظر ثم إعادة النظر، ثم التوقف أو التراجع لتبيان حقيقة الرؤية، أو ممارسة النقد!؟ فالنظر لا يحيد بتاتًا عن غير ما يتم تسليط الإعلام باتجاهه!
في العلاقة مع “إسرائيل” والنموذج التركي المتناقض تناقضًا حاسمًا بين الخطاب الناري لرئيس الدولة وحزبه، فيما يفسرونه براغماتية/عملانية/ذرائعية، وبين العلاقات الاقتصادية المتينة بين دولة الكيان الصهيوني نجد الحقائق كما نوردها بالمقال اللاحق.