محمد المحسن
أمد/ إلى متى ستظلّ يا وطني ناقلة للنفط ومحطة لإعلام الدول الكبرى..ونموت مذلة؟! (مظفر النواب)
لقد شهد التاريخ العربي أربع هجمات شرسة استهدفت الوجود العربي كلّه،تمثلت الأولى في الحملات الصليبية،والثانية في التتار،والثالثة في محاولات العثمانيين من خلال سياسة -التتريك-ومسخ لغة الإنسان العربي وثقافته ووجوده.أما الأخيرة فقد تمثلت في الهجمة الأوروبية الغربية الاستعمارية التي مزّقت الوطن العربي كله عبر مجموعة من المناورات والسياسات،واعتماد الأراجيف والوعود الاستعمارية المخاتلة والزائفة.ثم تواترت خيباتنا وهزائمنا في ظل انكسارنا المريع،بعد أن أنشب الاستعمار بألوانه المتعدّدة مخالبه في جسد هذه الأمة وانبجست-بموجبه-وبشكل سافر مرحلة الدويلات والحدود المصطنعة،وتكشّفت نواياه التوسعية في أرجاء الوطن السليب والمستلَب،وسقطت الأقنعة،لاسيما وأنه ما فتئ يكرّس وصايته علينا،إلى حد أصبح فيه مصيرنا-يصاغ-في كواليس عواصم الدول الكبرى وفي دهاليزها السرية..
وفي المقابل كان خط الانكسار العربي يتناقض بصورة مأساوية مع صورة العالم من حولنا، منذ هزيمتنا الكبرى (67)،فحين كان لهيب حرب الإخوة الأعداء في لبنان عام75،يلتهب بشكل موجع،كانت فيتنام تنتزع استقلالها من بين أنياب أعتى قوّة مسلّحة في التاريخ، وحين كان “أحدنا”ينحني من دون خجل للعلم الصهيوني في مطار بن غوريون،كانت فيتنام كذلك تبادر إلى الأمر الطبيعي،وهو توحيد الشمال والجنوب،وحين كان العرب يتقاتلون فيما بينهم عشائر وقبائل وطوائف،ويحرفون اتجاه البنادق عن العدوّ الواحد ويؤجّجون نار الفتنة ويجتهدون في توتير حدودهم،كانت إيران بشعبها الأعزل تطيح بأقوى قلعة مسلحة في الشرق الأوسط، وكانت في البعيد هناك-نيكارغوا-تتخلّص من الدكتاتورية المتوارثة..
أقول هذا لأنّ المسافة بيننا وبين الآخرين قد امتلأت بمنجزات كبرى ولأنّ العالم لم يكن لينتظر نهضة المنكسرين من كبوتهم التاريخية،ولأنّ نومنا قد طال وهزائمنا نخرت بقايا عروبتنا،وغدا الصّحو بحد ذاته هدفا منشودا ورغبة ملحة في الانتصار على الموت المحتمل من طول السبات،ولأنّنا كذلك ولجنا-من دون شعور منّا-ألفية ثالثة وقرنا جديدا وفلسطين مازالت-تبكي بصوت مشنوق-قدرها الحافي..فهل آن الأوان لاستعادة الحيوية الخارقة للتضامن العربي، باعتبارها ركيزة إستراتيجية للانطلاق نحو التنمية والتحرير على السواء؟
وهل أدركنا بعد،أنّ لا عروبة إستسلامية،متواطئة أو خائنة،كما أنّها ليست عرقا ونسبا ولا تشدقا بشعارات زائفة،بقدر ما هي الحضارة المتعددة الينابيع،الموحدة المصير،أي وحدة المصير القومي،وأنّ العداء لأمريكا وإسرائيل ليس عداء للشعب الأمريكي ولا لليهود،بل للإمبريالية والصهيونية كعقبة كأداء في وجه المصير القومي الواحد للعرب؟
أقول هذا لأنّ المحاولات البائسة التي تؤسّس “للسّلام الوهمي” والتطبيع المخزي مع العدوّ غدت الكساء الحريري الناعم الذي يكسو منذ أمد بعيد هزائمنا المخجلة،لدرجة تهديد أمّة كاملة بالموت يأسا واستسلاما للقدر المؤلم..
ولأنّنا قد تمزّقنا وتمزّق ـعقلنا العربي ـبين واقع التجزئة المخيف،والفكر القومي الآخذ في الانحسار والتراجع،وغدونا تبعا لذلك ـغزاة مدينتنا ـمثلما الآخرون بدورهم لنا غزاة..
وأقول هذا ثانية،لمن يؤسسون،من دون كلل أو ملل(!) للتطبيع مع العدوّ علّهم يدركون قبيل فوات الأوان،وقبيل ـإغلاق ملف القضية ـأنّ السّلام الوهمي لا وجود له في العقلية الحزبية الإسرائيلية حتى ولو تخفّى نتنياهو في ثوب قديس.فصهيون هي الحزب وحده والشعب هو عدد الناخبين وحدهم،وهذا يعني أنّ حصيلة الفكر الصهيوني هي المزيد من الأزمات وتغليب الفتق على الرتق،واعتماد المماطلة والتسويف وتكريس الهم العربي بإذكاء مظاهر الانشقاق والتصدّع بما من شأنه أن يقحم المنطقة العربية برمتها في لهيب الجحيم..
قلنا هذا،لأنّ المغزى الكامن هنا،هو أنّه من حقّنا الحذر دائما في قراءة العقل الأمريكي أوّلا والإسرائيلي ثانيا والغربي أوّلا وأخيرا،لأنّه يتناغم مع مصالحه ويتناقض بصورة مؤلمة مع أهدافنا،وهو بالتالي لا يمكن أن يكون تفكيرا إستراتيجيا ثابتا وأصيلا يمكن الرجوع له أو الاطمئنان إليه كفكر نهائي،فالسلام الدائم الذي ترومه أمريكا ومن خلفها إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط عليه أن يكون دائما مهندسا لإستراتيجيتها،وهو مرتبط أساسا بقبول عربي واسع للدولة اليهودية فكرة وكيانا،وكذلك بتعديلات جغرافية هزيلة،هنا وهناك،لمشروع التقسيم القديم،وبذلك تغدو المفاوضات مع ـالغاصِب ـ “طاولة مستديرة” لا تبادل فيها للآراء بالمناقشة، ولكنّها تبادل لنتائج صيغت ضدنا تحت جنح الظلام في شكل صيغة موحدة تنادي بنصف دولة فلسطينية مطوّقة برماح العدوّ،والاعتراف العربي بإسرائيل،وهذا الأمر له أهميته في قياس التذبذب الفكري العربي حين تفرض بعض المستجدّات نفسها وكأنّها الأمر الواقع،الذي يستحيل تجاوزه،بقدر ما يستدعي تفكيرا مغايرا يبدأ غالبا من نقطة الصفر..
ومن هنا بات واضحا أنّ الموقف الفلسطيني،بخطابه الإستنكاري المعهود وبلغته التفاوضية العتيقة،سيتردّى حتما في مآزق مسدودة تلغي آليا الشهادة التاريخية لدماء الشهداء،باعتباره يتغذّى على الأوهام وينساق مجانيا وراء المخططات الأمريكية التي تراهن دوما على استدعاء’”العبيد” للجلوس إلى مائدة “السادة”هؤلاء الذين سيظلّون رمحا مسموما في صدر الأمّة العربية،حتى ولو تكلّموا اللغة العربية،وأعلنوا،كنابليون وهتلر،أنّهم من حماة السّلام..!