حسن لافي
أمد/ اعتبر الكلّ في “إسرائيل” أن معركة طوفان الأقصى لحظة تاريخية صادمة ليس للمستوطنين فقط بل للمشروع الصهيوني برمّته، وأنه يجب على القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية، الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية لوقفة مع “الذات الإسرائيلية”، وتحويلها إلى فرصة لإعادة بناء المشروع الصهيوني مجدّداً، متخطية كلّ المشكلات السابقة ليوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، المشكلات السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية.
عاموس يدلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، أكّد في هذا السياق أنه “في اليوم التالي للحرب، إسرائيل مضطرّة لإعادة النظر مجدّداً بكلّ سياساتها وفي كلّ مجالات الأمن القومي لها”، مستفيدة من حالة الوحدة الناتجة عن الخوف والرعب على وجود “إسرائيل” لدى مستوطنيها كافة، الأمر الذي أنهى حالة الاستقطاب والتنافر المجتمعي في بداية الحرب على غزة، الذي كان السمة الغالبة للفترة السابقة لطوفان الأقصى، وبذلك يمكن للمستوى السياسي والعسكري “استثمار” حالة الدعم والتأييد الشعبي الناتجة من الصدمة لترميم “دولة إسرائيل” من جديد.
أضف إلى ذلك الدعم الأميركي الفوري واللا متناهي من أجل مساعدة “إسرائيل” في استعادة توازنها النفسي والعسكري والسياسي، وكلّ ذلك من أجل الحفاظ على “إسرائيل” والحرص على عدم انهيارها، الأمر الذي يبرز حقيقة يحاول الكثيرون من العرب القفز عنها، أن “إسرائيل” ما هي إلا رأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي في مواجهة المشروع العربي الإسلامي في الشرق، وأن أميركا هي الشيطان الأكبر.
لكن رغم توفّر كلّ الظروف والإمكانيات لدى القيادة الإسرائيلية لجعل الحرب على غزة فرصة لبناء “إسرائيل” الجديدة، إلا أنه بات من الواضح والثابت مع استمرارية الحرب وتراجع حالة الخوف الوجودي، أنّ الأمراض الداخلية الإسرائيلية التي ظهرت أعراضها قبل طوفان الأقصى، أثناء ما يسمّى بالإصلاحات القضائية وما واكبها من مظاهرات وانقسامات جوهرية داخل النسيج السياسي والاجتماعي الإسرائيلي، لم تستطع حرب “إسرائيل” على غزة معالجتها، بل يمكن القول من دون مبالغة إن حرب غزة فاقمت من تلك الأمراض الإسرائيلية، وحوّلتها إلى سرطان لا يمكن علاجه.
فعندما نرى أن “الجيش” الإسرائيلي، العمود الفقري للمشروع الصهيوني، والضمان الوحيد لبقاء “إسرائيل” في المنطقة، تمّ فقدان الثقة به، بل بات عرضة للاتهامات ليس فقط من المستوى الشعبي، ولكن والأهم من المستوى السياسي، وتحوّلت اجتماعات الكابينت الإسرائيلي إلى فرصة لمهاجمة وزراء الحكومة لرئيس أركان “الجيش”، وتحصيل إنجازات سياسية شعبية من وراء ذلك، رغم أن “الجيش” الإسرائيلي يخوض حرباً على مدار أكثر من 124 يوماً في غزة والجبهة الشمالية، إلا أنه عاجز عن تحقيق أهداف الحرب مجتمعة في آن واحد.
وقد صرّح بذلك بعض قادته لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية: “أنه لا يمكن تحقيق تدمير حركة حماس والمقاومة وتحرير الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة أحياء بالوقت ذاته”. وكلما استمر القتال وطال زمنه، يجد “الجيش” الإسرائيلي نفسه يغوص أكثر وأكثر في وحل الفشل وعدم القدرة على تنفيذ أهداف المعركة، ليس بسبب صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، ومساندة قوى المقاومة الحيّة له فقط، بل لأنّ هناك خللاً جوهرياً في صياغة وتحديد أهداف الحرب من قبل المستوى السياسي الإسرائيلي أيضاً.
في ظلّ عدم وجود خطة ورؤية استراتيجية سياسية للقيادة الإسرائيلية، لا يمكن الوصول بأي عمل عسكري إلى النجاح، ولذلك انتشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية وبين نقاشهم السياسي مقولة “رغم كلّ النجاحات التكتيكية للجيش الإسرائيلي في غزة، إلا أنه لم يستطع تحويلها إلى انتصار حاسم”.
لماذا؟ لأن الانتصار يحتاج إلى هدف استراتيجي سياسي تصبّ فيه كلّ المساعي التكتيكية لتحقيقه، وهذا غير متوفّر بقيادة “إسرائيل” الحالية بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي يسيطر عليها التردّد باتخاذ القرارات الحاسمة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن تركيز المعضلة الإسرائيلية في شخص نتنياهو وحده، رغم أهميته كرئيس للوزراء ولحزب الليكود، إلا أن ذلك تسطيح سياسي لأزمة “إسرائيل” العميقة والمتجذّرة.
على فرضيّة تغيير نتنياهو برئيس المعسكر الرسمي بني غانتس البديل المرتقب لنتنياهو، ولنطرح السؤال ذاته، ما هي استراتيجية غانتس ورؤيته لـ “إسرائيل” وقضاياها الجوهرية؟، غانتس لا يملك القدرة على إنهاء حالة الانشقاقات الإسرائيلية الداخلية، بل وصوله إلى الحكم سيفاقمها بطريقة أكثر حديّة من فترة نتنياهو، كون اليمين المتطرف هو من سيكون في المعارضة، وهو الذي سيخرج للتظاهر، والجميع يتذكّر كيف كانت الحالة في فترة معارضة اليمين لحكومة إسحاق رابين (1992 ـــــ 1995) في فترة أوسلو، والتي أدت لاغتياله على يد “إيغال عمير” أحد المتطرفين اليمينيين.
أضف إلى ذلك أن هناك حقيقة سياسية اجتماعية في “إسرائيل” من المهم تأكيدها أن المجتمع الإسرائيلي ينزاح نحو التطرّف بأطيافه السياسية كافة، وليس داخل اليمين الإسرائيلي فقط، هذه الحقيقة من أهم استنتاجات تعاطي الشارع الإسرائيلي مع المجازر الإسرائيلية خلال حرب غزة، فمجرد اعتبار أنّ كلّ فلسطيني في غزة “إرهابي”، يجب قتله ويجب عدم الاهتمام بمصيره، يؤكّد المعادلة الراسخة: كلما استمر الاحتلال كلما فقد المحتل “آدميّته”، فالاحتلال ليس عبئاً إنسانياً على من يتمّ احتلاله فقط، بل أيضاً على من يمارس الاحتلال ضد الآخرين.
وهنا ستكون أي حكومة إسرائيلية مهما كانت قيادتها عاجزة عن تحقيق اختراق سياسي في القضية الجوهرية، والتي هي أساس كلّ التهديدات الأمنية على “إسرائيل”، وهي القضية الفلسطينية، حيث أهم الدروس الإسرائيلية من عملية طوفان الأقصى، أنه مهما حاولت “إسرائيل” إزاحة القضية الفلسطينية وتغييبها سواء باستدامة الانقسام الفلسطيني، أو محاولات الاحتواء الاقتصادي “الاقتصاد مقابل الأمن”، أو القفز عنها تجاه عمليات التطبيع العربي، أو اعتبار الملف النووي الإيراني التهديد الوجود الأخطر، إلا أنه سرعان ما تتفجر القضية الفلسطينية، لسبب بسيط أن هناك شعباً فلسطينياً لا يمكن له التعايش مع الاحتلال الصهيوني العنصري والفاشي.
وهذا ما أدركته الإدارة الأميركية بقيادة جو بايدن حالياً، أن مدخل ترتيب أوضاع “إسرائيل” في المنطقة والحفاظ على أمنها القومي، وعدم تكرار حالات مشابهة لعملية طوفان الأقصى وليس بالضروري من غزة، هو القضية الفلسطينية.
وهنا يبرز الخلاف الفعلي بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية، ليس لأنّ إدارة بايدن حريصة على حقّ الشعب الفلسطيني بالاستقلال وتقرير المصير، لكن لأنها حريصة على إنقاذ “إسرائيل” من نفسها ومن أمراضها الداخلية المزمنة. فإدارة بايدن لا تريد تنفيذ حلّ الدولتين، فعلى مدار مسيرة التسوية التي امتدت أكثر من ثلاثين عاماً كان الوقت والظرف السياسي متاحاً لكل الإدارات الأميركية السابقة لتنفيذ حل الدولتين، ولكنها لم تفعل، لكن بايدن أدرك أمرين بعد عملية طوفان الأقصى، الأول، أن “إسرائيل” أضعف بكثير مما كان يظن، والثاني، أن القضية الفلسطينية لا تموت وتأثيرها واسع على كلّ الشرق الأوسط وربما العالم.
الخطة الأميركية المقترحة لليوم التالي للحرب في غزة تعالج كلا الأمرين، فمن خلال التطبيع السعودي الإسرائيلي يتشكّل حلف في مواجهة حلف محور المقاومة بقيادة إيران، وبذلك لا تبقى “إسرائيل” لوحدها في مواجهة محور المقاومة، وأيضاً ربط الحديث عن حل الدولتين بالتطبيع يساهم في إبقاء القضية الفلسطينية في دوامتها القديمة بما يسمّى مسيرة التسوية، ولكن هذه المرة الرهان الأميركي أنّ حرب غزة وما أحدثته من دمار شامل في البنى التحتية المدنية والإنسانية في قطاع غزة أثّرت على الخزّان الوطني الفلسطيني (غزة) من خلال خلق أولويات حياتية وإنسانية للشعب الفلسطيني في غزة، تساهم في تمرير تلك المخططات على المدى المنظور.
وبالتالي ظهر الحرص الأميركي على إعادة إعمار غزة من خلال صفقة سياسية شاملة، لكي تكون هناك حالة من الضبط ومحاصرة أي موقف فلسطيني رافض لتلك الصفقة، من خلال حاجة غزة وشعبها لذلك الإعمار والتقاط الأنفاس وإزالة آثار الكارثة الإنسانية التي سبّبتها الحرب الإسرائيلية في غزة، ومن ثم من خلال استخدام العرب كقوة ضاغطة على الفلسطيني للانصياع لتلك الصفقة، وخاصة أن الحديث يدور عن حكومة تكنوقراط لا أبعاد سياسية لها، تخت مظلة للسلطة الفلسطينية “المحسّنة” أميركياً.
رغم كلّ الحرص الأميركي على إخراج “إسرائيل” من أزماتها، إلا أن هذه المحاولة الأميركية تصطدم بالتغيّرات الأيدلوجية والسياسية والانتخابية في المجتمع الإسرائيلي، الذي ينزاح تجاه اليمين، ورغم أنّ ما يقارب من 80% بحسب الاستطلاعات فاقد الثقة بنتنياهو كرئيس للوزراء، واحتمال إزاحته من الحكم بعد الحرب كبيرة جداً، رغم كل محاولاته لإطالة عمر بقائه السياسي، إلّا أنّ المجتمع الإسرائيلي تزداد يمينيّته بعد حرب غزة أكثر وأكثر.وكما كتب “ناحوم برناع” المحلّل السياسي الإسرائيلي في صحيفة “يديعوت أحرنوت” أنه “بكلّ ما يتعلّق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني الجمهور يتجه نحو اليمين، ولكن في الوقت ذاته يبتعد عن حكومة اليمين”، ولا يعتبر ذلك تناقضاً، ” فليست توجّهات حكومة اليمين السياسية هي التي تبعد الناخبين عن حكومة نتنياهو اليمينية بل قدراتها التنفيذية، التي يعتبرها الناخبون فاشلة عاجزة وفاسدة ومنقطعة عن الواقع”.
في المحصّلة، لن تمثّل إزاحة نتنياهو عن المشهد السياسي الإسرائيلي العلاج لأزمات “إسرائيل” المزمنة، لكن علاجها يكمن في إنهاء احتلالها للشعب الفلسطيني، الدواء الذي يرفض تناوله المريض ذاته.