معتصم حمادة
أمد/ نجحت الولايات المتحدة، هذه المرة، في فرض الحصار المالي على وكالة أونروا، بالتعاون مع تحالفاتها الأطلسية واليابان وأستراليا وغيرها، وقد استندت إلى ادعاءات إسرائيلية عن مشاركة موظفين في الوكالة، بالنشاط مع حماس «الإرهابية»، قيل أنهم 11 موظفاً، وقيل أيضاً أنهم 9، وقيل كذلك أنهم فقط 7 لا أكثر، ما يدلل على طبيعة الخبر المبني على الادعاءات والتخمينات، وحتى كتابة هذه السطور، بلغ عدد الدول المانحة التي أعلنت سحب تعهداتها بالتمويل 18 دولة، يقدر الخبراء أن تمويلها يكاد يشكل أكثر من 80% من موازنات أونروا، بينما لم تقدم إسرائيل، حتى الآن، أية إثباتات في شهادات خطية، تؤكد صحة ادعاءاتها، مما يدفع للتأكيد أننا أمام خطة أميركية – إسرائيلية، تحاول أن تستغل حرب المذابح والمجازر في قطاع غزة، واتساع دائرة الدول التي تتهم حماس بـ«الإرهاب»، من أجل تصويب النار على أونروا، واصطيادها، بقطع التمويل، لتحقيق هدف تعمل الولايات المتحدة عليه، دون نجاح، منذ أكثر من أربعة عقود كاملة، في سياق مشروعها السياسي لشطب حق العودة، عبر إفراغ وكالة أونروا من مضمونها، ووقف تمويلها وشل برامجها، وتحويلها إلى مجرد جثة هامدة، تنقل خدماتها إلى الدول المضيفة، تسقط «الشاهد» على النكبة، وتنهي خدماته، وتطوى قضية اللاجئين لصالح البحث عن حلول بديلة، علماً أن جعبة الولايات المتحدة وأوروبا (وحتى بعض الأطراف العربية، وكذلك السلطة الفلسطينية) مليئة بالحلول البديلة.
تأسيس أونروا: النوايا الحقيقية
لم يعد سراً القول أن تأسيس وكالة أونروا، هو من بنات أفكار التحالف الأميركي – البريطاني، فقد لاحظت لندن أن تدفق 800 ألف لاجئ فلسطيني إلى الدول المجاورة، كالأردن، ولبنان وسوريا، والعراق، من شأنه أن يربك هذه الدول (وكانت مقربة جداً من الغرب) وأن يحدث الفوضى فيها خاصة وأن هذه الدول الفتية لم تكن تملك خبرة في إدارة شؤون آلاف النازحين واللاجئين، فضلاً عن أنها لم تكن تملك الأدوات الكفؤة لذلك.
إلى جانب ذلك، رأت لندن (ومعها الولايات المتحدة) أن ما لحق بالفلسطينيين من نكبات، أدت إلى ما أدت إليه في فلسطين، أساء إلى سمعة البلدين لدى شعوب المنطقة، وألب النفوس ضدهما، ما قد يحول تجمعات اللاجئين الفلسطينيين (الذين لم تنظم إقامتهم حتى الآن)، وكذلك بعض الفئات المتنورة في الحالة العربية، إلى بيئة خصبة لتغلغل الأفكار اليسارية والقومية المعادية لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أساساً، ولكل الغرب عموماً، ما يتطلب وفقاً لدراسات في لندن، التحرك لمعالجة هذا الوضع، عبر أكثر من مسار.
المسار الأول هو تقديم دفعات عاجلة للاجئين في أقطار الانتشار بقيمة 16 مليون دولار، بقيمة ذلك الوقت، لذلك لا غرابة أن يكون أولى التقديمات العامة للتبرع للاجئين الفلسطينيين كان مصدرها مستودعات الجيش الأميركي (خيم وغيرها) والتبرعات البريطانية.
في 19/11/1948، وبموجب قرار الجمعية العامة رقم 212، طورت الولايات المتحدة وبريطانيا تحركاتها، عبر العمل مع الأمين العام للأمم المتحدة وبرئاسته، لتشكيل «هيئة إدارية» وظيفتها مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، بالتعاون مع الوكالات الدولية، كاليونيسيف، وغيرها، في ظل إحصاء أكد في تلك الفترة أن عدد اللاجئين قد وصل إلى 500 ألف لاجئ.
في 8/12/1949، وبموجب القرار 302، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تم حل «الهيئة الإدارية» لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، برئاسة الأمين العام لصالح وكالة دولية، ذات هيئة اعتبارية، يقودها مفوض عام، تسمى أونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) يجدد تفويضها مرة كل 3 سنوات، إلى أن يطبق القرار 194، الذي يكفل عودة اللاجئين إلى ديارهم، حيث تنتهي وظيفتها. تعتمد في موازناتها على تبرعات الدول المانحة، وأهمها الولايات المتحدة الأميركية، المانح الأكبر (وبالتالي صاحب النفوذ الأكبر في مراقبة أونروا كادراً وبرامجاً)، تساهم الأمم المتحدة بما نسبته 4% من موازنتها، تخصص بشكل رئيس لكبار الموظفين، الذين تسميهم الأمم المتحدة، باعتبارهم «خبراء» في قضايا اللجوء والإغاثة، أما مساهمة الدول العربية في موازنة الوكالة، فقد تقرر عربياً ألا تتعدى ما نسبته 6% كحد أقصى، حتى تبقى الصفة الدولية هي صفة الوكالة، فهي «الشاهد» على نكبة اللاجئين، وعلى مسؤولية الدول الغربية في تنفيذ القرار 194، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم، وبحيث تبقى قضية اللاجئين عموماً، قضية مرجعيتها الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة، ورُسِمَت أهداف الوكالة كالتالي: إغاثة اللاجئين وتشغيلهم، وتجميعهم في مخيمات خاصة بهم (العزل)، والعمل الدؤوب على دمجهم في المحيط، في سياق خطة مدروسة لتوطينهم في الدول المضيفة، وكما تبين استعانت الوكالة بـ«خبراء» التمييز العنصري، في تنظيم تجمعات اللاجئين في مخيمات، منهم خبراء عزل الهنود الحمر، السكان الأصلانيين في الولايات المتحدة، في معازل خاصة بهم، وكذلك المعازل التي أنشأتها الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية للأميركيين من أصول يابانية، وتجارب استراليا في السياق نفسه، فضلاً عما سنته بعض الدول المضيفة من قوانين عنصرية، وصلت إلى حد منع اللاجئين من السفر من مدينة إلى أخرى في البلد المضيف، ومنع اللاجئين من استقبال ضيوف من خارج المخيم إلا بإذن من مركز الشرطة والأمن المشرف على المخيم، فضلاً عن تحريم أي نشاط سياسي داخل المخيمات، بما في ذلك الاستماع إلى بعض الإذاعات العربية، كـ«القاهرة وصوت العرب»، وشراء الصحف، خاصة ذات الميول القومية وغيرها.
لذلك، على سبيل المثال، كان الكونغرس الأميركي يسائل إدارة البيت الأبيض، في إقرار مساعدة الولايات المتحدة للوكالة، عن مدى مراقبة الأجهزة الأميركية المعنية لبرامج الوكالة، ومدى تقدمها في إنجاز مهمتها السياسية، أي دمج اللاجئين في المجتمع المحلي، وقمعهم سياسياً، بما في ذلك التدخل ببرامج التعليم في مدارس الوكالة، وإفراغها من أي مضمون يسهم في بلورة شخصية الطالب، أو تعزيز انتماءه إلى وطنه، وكل هذا تحت مسمى «التسامح مع الغير» و«مكافحة الإرهاب»، أما «الغير» فهو بطبيعة الحال الإسرائيلي الذي احتل فلسطين وتسبب في النكبة الوطنية، أما «الإرهاب»، فهو كل نزعة تتطلع نحو حق العودة إلى الديار والممتلكات.
غير أن الوكالة فشلت في تحقيق أهداف الغرب الاستعماري، في مسح الهوية الوطنية للفلسطينيين، وفي دمجهم في المجتمع المحلي، وفي عزلهم عن قضيتهم، إذ اصطدمت بالأصالة الوطنية للاجئين، كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، فضلاً عن الدور المهم الذي لعبته القوى السياسية القومية في المخيمات، رغم ما كابدته من قمع ومطاردة واعتقالات عشوائية، دون أن نهمل، بالضرورة، الدور الذي لعبته شرائح المدرسين في مدارس الوكالة، بتنمية الحس الوطني لدى الطلاب، وتعزيز انتمائهم إلى وطنهم.
أونروا في خدمة «اتفاق أوسلو»
شكل «اتفاق أوسلو» انقلاباً على البرنامج الوطني الفلسطيني، فمقابل قيام حكم إداري ذاتي، محدود الصلاحيات، على السكان، ودون أية سيادة على الأرض، أحال الاتفاق إلى ما يسمى «مفاوضات الحل الدائم»، القضايا الجوهرية التي تشكل لب القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، كمصير الأراضي المحتلة (التي اعتبرت أرضاً متنازعاً عليها) وقضية اللاجئين وحق العودة، ومصير المستوطنات والحدود، وقضايا المياه، وإلى جانب هذا كله، مصير القدس، مستقبل الدولة الفلسطينية، التي لم تعترف بها إسرائيل، رغم أن القيادة الفلسطينية سارعت في 9/9/1993، أي قبل توقيع «اتفاق أوسلو» بأيام قليلة، إلى الاعتراف «بحق إسرائيل في الوجود»، ما نسميه قانونياً اعترافاً بالمشروع الصهيوني وبحق اليهود في إقامة «دولتهم» على أرض فلسطين.
أثار «اتفاق أوسلو» مخاوف الفلسطينيين، وبشكل خاص اللاجئين في الشتات، الذين شعروا أن القيادة الفلسطينية تخلت عنهم، وعن حقهم في العودة، وغلبت مصالحها الفئوية والطبقية الضيقة على مصالحهم، ودخلت في رهانات خاسرة مسبقاً، لذلك جندت الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب، كما جندت إسرائيل جهودها لدعم مشروع قيام سلطة الحكم الإداري الذاتي، حتى أن شمعون بيريس، وزير خارجية إسرائيل آنذاك، جال في عواصم العالم، وصولاً إلى الهند، لإقناعها بالتبرع لسلطة الحكم الإداري الذاتي، خاصة لإقامة أجهزتها الأمنية، باعتبارها العمود الفقري لقدرة هذه السلطة على «فرض الأمن والاستقرار» في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أما بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، الذين شعروا أن قطار حل أوسلو، انطلق وتركهم أيتاماً على الرصيف، فقد تفتقت عبقرية الجهات المانحة (الولايات المتحدة ومن خلفها الغرب الأوروبي واليابان وغيرهما) عن فكرة إطلاق مشروع تطبيق السلام (P.I.P) عبر رصد ميزانية سخية جداً، استئنائية، قيمتها 300 مليون دولار، بقيمة ذلك الزمان، لإيجاد سلسلة مشاريع في مخيمات قطاع غزة خاصة والضفة أيضاً، لإحداث نقلة نوعية في أوضاع اللاجئين، كتنظيم حملة لإزالة (بعد طول إهمال) كافة النفايات الصلبة، وترميم الشوارع والأزقة والمدارس، باعتبارها كلها من ثمار «اتفاق أوسلو»، و«مشاريع السلام» القادم على أجنحة هذا الاتفاق.
هنا لا بد من الملاحظة أن وكالة أونروا، وقبل إقرار برنامج الـ(P.I.P) ظلت لسنوات تعاني عجزاً في موازناتها، وفي تطبيق برنامجها العام، وقد وصل العجز في سقفه إلى ما يقارب 12 مليون دولار، بقيت الدول والجهات المانحة تمتنع عن توفيره، وفجأة ومع «اتفاق أوسلو» وترويجاً لهذا المشروع، توفرت المبالغ السخية (300) مليون دولار، ليس لإسناد البرنامج العام لوكالة أونروا، ولا لتطويره، بل لمرة واحدة، في إطار الحالة السياسية لدعم «اتفاق أوسلو»، وإقناع اللاجئين بحسناته، وللتغطية على تغييب قضيتهم السياسية وحقهم في العودة عن جدول أعمال الاتفاق.
الخطوة الثانية التي سُخرت فيها وكالة أونروا في خدمة «اتفاق أوسلو»، هي ما يسمى العمل على مواءمة برامجها ومشاريعها مع برامج الدول المضيفة، تمهيداً لاستقبال الحل القادم بكل معطياته السياسية، ومنها ما يخص المعطى السياسي بشأن قضية اللاجئين عبر تجزئة الحل، في سياق شطب حق العودة لصالح «حلول» تأخذ في الاعتبار الواقع الخاص لكل تجمع من تجمعات اللاجئين، ممن هم في الضفة الغربية وقطاع غزة، مصيرهم «التوطين في أماكن سكناهم»، خاصة وأنهم أدخلوا سجلات الحالة المدنية لدى الإدارة المدنية لدولة الاحتلال، باعتبارهم من سكان (مواطني) سلطة الحكم الإداري الذاتي.
أما من هم في الأردن، فهم «مواطنون أردنيون»، وقد أقرت «معاهدة وادي عربة» في بندها الثامن، توطينهم في الأردن. بالمقابل من هم في سوريا، فقد أقرت القوانين السورية اعتبارهم «في حكم المواطن السوري»، يتمتعون بالحقوق كافة، ما عدا الحقوق السياسية. وهو ما فسر من دوائر التخطيط الغربي على أنه وفر الأرضية الصالحة لتوطين اللاجئين في سوريا، ودمجهم في المجتمع المحلي، خاصة وحسب ادعاءات أصحاب أوسلو، أن 12% فقط من اللاجئين يسكنون المخيمات والباقي منشرون في المدن، أي أقرب إلى الاندماج منه إلى اللجوء.
تبقى قضية اللاجئين في لبنان، وهي التي اعتبرت المسألة الواجب حلها نظراً للخصوصية السياسية والديمغرافية للتركيبة اللبنانية، أي بعبارة أوضح، فإن برنامج مواءمة خدمات الوكالة مع خدمات الدول المضيفة، كان هدفه نقل خدمات أونروا إلى الدول المضيفة، بعد الوصول إلى «حل دائم» للقضية الفلسطينية، يقوم على توطين اللاجئين في أماكن سكناهم.
• الخطة الاستراتيجية الثالثة، التي جرى العمل لتتبناها وكالة أونروا، في خدمة «اتفاق أوسلو»، والنتائج المتوقعة لما يسمى «الحل الدائم»، وبضغط من بعض أطراف الهيئة الاستشارية التي تشرف على تمويل الوكالة وبرامجها، هي الدفع باتجاه تحويلها من منظمة إغاثة، كما نص على ذلك القرار 302/(4) إلى وكالة للتنمية الاجتماعية، تمهد على أكثر من خطة إلى تقليص عدد المستفيدين من الخدمات (عبر منحهم قروض صغيرة مقابل التخلي عن حقهم في خدماتها كافة)، أو تصنيف اللاجئين وفق مستوياتهم الاجتماعية، والتدقيق في «أحقيتهم» في خدماتها، عبر استبيانات كان هدفها تحويل اللاجئين إلى فئات اجتماعية، يكون لبعضها الحق في الخدمات، وليس لكل اللاجئين، خاصة من «يملك منزلاً وسيارة، وثلاجة، وفرن بوتوغاز، وتلفزيون، وغيرها …»، وهي كلها أفكار حاولت وكالة أونروا أن تتبناها، مقدمة لإلغاء خدماتها، أو تقليصها للحد الأدنى، فأعادت النظر في بعض برامجها، كبرنامج إصلاح المأوى الذي نزع من البرنامج العام، لصالح اعتباره مشروعاً، رهناً بتوفر الدعم الخاص له، فضلاً عن إعادة النظر بلائحة الخدمات الطبية، والإغاثية الغذائية، والمدرسية، وبعد نفاذ مبلغ 300 مليون دولار، عادت وكالة أونروا تعاني من العجز في موازناتها، وتراجع التزامات الجهات والدول المانحة، على طريق تجفيف تمويلها، وتقليص دورها، وتهميشه في خدمة مشروع توطين اللاجئين الذي تضمنه «اتفاق أوسلو».
لم يتم كل هذا، بعيداً عن مشاركة سلطة الحكم الإداري الذاتي وتواطئها مع الجانب الإسرائيلي، و«الراعي» الأميركي للمفاوضات تحت سقف «أوسلو».
ولعل الذروة في هذا التواطؤ، مؤتمر «جنيف – البحر الميت»، الذي شاركت فيه السلطة الفلسطينية بوفد رسمي، تشكل من نواب في التشريعي، ووزراء في حكومة السلطة، أقر خطة مدتها سنتان، تقوم على 3 خيارات أمام اللاجئين:
1) القبول بالتوطين في مكان اللجوء، بموافقة الدول المضيفة.
2) الانتقال إلى دولة ثالثة على استعداد لتوطينه.
3) القبول بالتعويض مقابل التخلي عن حق العودة.
وبعد إنجاز هذا الحل، تنتفي الحاجة إلى وكالة أونروا.
كما أسهمت السلطة في إضعاف حق العودة وتشويهه، حين فسرته بأنه عودة إلى «جناحي الوطن» أي الضفة وغزة، وحين فسرت القرار 194 باعتباره يقتصر على كفالة الحق في التعويض دون أي ذكر للعودة، وحين تساوقت في القمة العربية في بيروت عام 2002، وقبلت بمبادرة سياسية للحل لم تأت على ذكر حق العودة إطلاقاً، باعتراف الذين صاغوا نص المبادرة ومنهم الدكتور مروان المعشر نائب رئيس الوزراء الأردني آنذاك، كما ورد في كتابع الشهير «نهج الاعتدال» – دار النهار – بيروت.
خلاصة: فشلت الجهات المانحة بالتواطؤ مع أطراف أوسلو في شطب حق العودة، وفي السياق في إلغاء الحاجة إلى وكالة أونروا، فقد قوبلت هذه المشاريع على تنوعها الشكلي، بمعارضة شعبية واسعة من حركة اللاجئين داخل الأراضي المحتلة، وفي الشتات، عقدت في سياقها العديد من مؤتمرات العودة في أوروبا والدول العربية، أبرزت عمق تمسك اللاجئين بحقهم في العودة، وبالتالي في تصديهم للمشاريع البديلة، بما في ذلك إفراغ أونروا من مضمونها، وشلها وتعطيل برامجها مقدمة لحلها.
أونروا وصفقة القرن
مع وصوله إلى البيت الأبيض خلفاً لباراك أوباما، الذي فشل في إطلاق عملية سياسية ذات مغزى لقضية الشرق الأوسط، أعلن الرئيس الجديد دونالد ترامب عن مشروعه المسمى «صفقة القرن» وهو يقوم على نسف قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وانتهاك القوانين الدولية، لصالح مشروع بديل، مدخله، وحلقته المركزية إعادة صياغة المعادلات في المنطقة، بحيث تصبح إيران هي الخطر على مصالح المنطقة، وتصبح إسرائيل بالمقابل حليفاً للدولة العربية، يلتقي معها في حلف إقليمي أريد له أن يحمل عنواناً دينياً: «تحالف أبراهام»، في إشارة إلى التلاقي بين المسلمين واليهود، في سلام ووئام، يتجاوز الصراع على أرض فلسطين، وعلى خطى مفاوضات كامب ديفيد2 (تموز/ يوليو 2000)، أخرج ترامب قضية اللاجئين من خطته للتسوية، منطلقاً من دعوته إلى إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يقتصر على مواليد فلسطين ما قبل 15/5/1948، أما الآخرون، فيدرجون في صيغة بديلة، منها، على سبيل المثال، إحالة قضيتهم إلى المفوضية العليا للاجئين في العالم، أي نزع هويتهم الوطنية الفلسطينية، وإسقاط حقهم في العودة، لصالح البحث لهم عن مكان سكن دائم، مستعيداً بعض ما ورد في «مؤتمر جنيف – البحر الميت» للعام 2003.
وبناءً على مشروع ترامب لتعريف اللاجئ، يتناقض عدد اللاجئين الفلسطينيين تناقصاً كبيراً، إذ ينحدر من 6 ملايين إلى ما لا يتجاوز 50 – 60 ألف لاجئ كحد أقصى مرشحون للتلاشي خلال فترة معينة، وفق تقديرات الخبراء آنذاك، وهذا يعني بالمقابل، أن الأمم المتحدة لم تعد بحاجة إلى وكالة أونروا، التي تعنى بالملايين الـ6، ولمم تعد هذه المنظمة بحاجة إلى موازناتها المرصودة بالملايين، وحذت حذوه دول أخرى، ككندا على سبيل المثال، مما زاد الأوضاع المالية لوكالة أونروا تعقيداً، ما عكس نفسه، بشكل خطير على دورها في تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين.
ولعل ترامب، كان يدرك كما أدرك اللاجئون أنفسهم، أن المدخل لشطب قضية اللاجئين، هو بإلغاء وكالة الغوث، إما عبر حلها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا من شأنه أن يصطدم بمعارضة شديدة من الدول الأعضاء، وإما بالعمل مع المانحين على إعادة تعريف اللاجئ، بما يقلص دورها إلى حد نفي ضرورة وجودها، وإما أخيراً وليس آخراً، تجفيف تمويلها، لتعطيل برامجها وشل أجهزتها، وتحويلها إلى جثة هامدة، تنفي نفسها بنفسها.
لقد كان حق العودة هو محور القضية، لكن مصير وكالة أونروا، هو الذي يشكل على الدوام الممر الإجباري للمس بحق العودة، لذلك لا غرابة أن يرفع اللاجئون في مواجهة خطة ترامب (التي فشلت) شعارهم الدقيق «مفتاح الدفاع عن حق العودة هو في صون وكالة الغوث وإدامة خدماتها».
أونروا وإدارة بايدن
قبل ضمان وصوله إلى البيت الأبيض، نظم فريق الرئيس (المرشح) جو بايدن، سلسلة حوارات مع السلطة الفلسطينية وقيادتها السياسية، كما مع الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة، أغدق خلالها بالكثير من الوعود التي ثبت كذبها لاحقاً، كإعادة فتح مقر مفوضية م. ت. ف. في واشنطن (والتي كان قد أغلقها ترامب)، وإعادة افتتاح القنصلية العامة الأميركية في القدس الشرقية، لتكون صلة الوصل مع السلطة، وليست السفارة التي نقلت بقرار من ترامب إلى القدس، والتي اعترف بها عاصمة لدولة إسرائيل، كذلك استئناف المساعدات المالية للسلطة ولوكالة أونروا، وغيرها من الوعود.
بعد فوزه بالرئاسة، أخلت إدارة بايدن بكل وعودها للسلطة الفلسطينية وقيادتها السياسية، ما عدا استئناف المشاركة في تمويل وكالة أونروا، لكن وفقاً لشروط، وضعتها اللجنة المتخصصة في الكونغرس، وافقت عليها أونروا، في اتفاق أطلق عليه إطار العمل المشترك (الإطار) الذي يلزم وكالة أونروا، بما يخالف المبادئ التي أقرها القرار 302/ د.4، والمفاهيم التي تبنتها هي نفسها أساساً لعملها في صفوف اللاجئين، من الشروط (القديمة – الجديدة) التي وضعها الكونغرس على أونروا مقابل استئناف تمويلها:
• حرمان الموظف الفلسطيني في أونروا من حقه في أي نشاط سياسي (حزبي أو مستقل) أو اجتماعي، بدعوى الوقوف على «الحياد»، في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أي بتعبير آخر، تجريد الموظف الفلسطيني من هويته الوطنية، ومن حقه في تقرير مصيره، وهو ما يخالف القوانين الدولية، وشرعة حقوق الإنسان، وقرارات الشرعية الدولية.
• تقديم ضمانات إلى الكونغرس أن لا يستفيد من خدمات أونروا الأفراد الأعضاء في «منظمات إرهابية»، علماً أن م. ت. ف، وكافة فصائلها، مدرجة على لائحة «الإرهاب» الخاصة بالكونغرس الأميركي، وهذا يفترض بوكالة أونروا أن تميز بين «لاجئ مسالم» يستحق الاستفادة من الخدمات، و«لاجئ إرهابي» يجب أن يحرم منها، أي أن تتبنى وكالة أونروا التصنيف الأميركي لمفهوم «الإرهاب»، وهو ما ينطبق على كافة حركات التحرر في العالم، وليس حركة التحرر الفلسطيني وحدها.
• «تنقية» البرامج التربوية في مدارس أونروا، من كل ما يعتبر «تحريضاً على الإرهاب والكراهية»، لصالح «قيم ومفاهيم التسامح الإنساني»، أي التوقف عن تبني الرواية الفلسطينية للقضية الوطنية، بما في ذلك كل ما له علاقة بالتاريخ الوطني، كالنكبة وغيرها، وإلغاء الشعارات الوطنية المعلقة على الجدران في الباحات والصفوف، والتوقف عن تعطيل المدارس في المناسبات الوطنية (بما في ذلك ذكرى النكبة ووعد بلفور وقرار التقسيم وغيرها)، في خطة محكمة، من شأنها أن تغسل دماغ الأجيال الفلسطينية الناشئة، وأن تجعل منها أجيالاً منزوعة الحس والوعي الوطني، «متسامحة» مع دولة الاحتلال، مؤهلة (وإلى جانبه «أطقم» التدريس التي عليها أن تكون هي مصدر مادة «التعبئة») لتتقبل أي حل للمسألة الفلسطينية، بما في ذلك ما له علاقة بحق العودة، ومصير القدس، وغيرها من ملفات القضية الوطنية، فضلاً عن العمل على تهميش الأطر الاجتماعية المؤهلة للانتماء إلى المؤسسات الوطنية الحزبية والاجتماعية.
وهكذا تفقد وكالة أونروا موقعها شاهداً على النكبة، وشاهداً على جريمة الاستعمار الغربي بحق الشعب الفلسطيني، كما تفقد دورها مؤسسة معنية بالمساهمة في بناء المجتمع الفلسطيني، لتصبح مجرد أداة بيد مشروع الحل الأميركي المسمى «حل الدولتين»، والذي يشكل تلاقي المصالح الأميركية – الإسرائيلية أساساً له.
أونروا وحرب 7 أكتوبر 2023
فيما العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة في ذروته، أعلنت دولة الاحتلال أنها قبضت على عدد من موظفي وكالة أونروا شاركوا في عملية «طوفان الأقصى»، واختلفت الروايات الإسرائيلية حول حقيقة الأسماء لهؤلاء وعددهم، ووعدت بتقديم تقرير حول ذلك، يستند إلى تحقيق موضوعي، لكنها حتى الآن لم تقدم أية وثيقة خطية تثبت صحة ما ادعته.
إدارة بايدن، وحتى قبل أن تتسلم من إسرائيل ما يثبت صحة ادعاءها، سارعت إلى الإعلان عن تعليق مساهمتها في تمويل أونروا، ولحقت بها سريعاً وخلال ساعات مجموعة من الدول الغربية، واليابان، إلى أن وصل عددها إلى 18 دولة، تؤكد وكالة أونروا أن نسبة مساهمتها في تمويل الوكالة تصل إلى 80%، وبعضهم قال أكثر، والصقت بوكالة أونروا أنها منظمة تتعاون مع «الإرهاب»، وتضم في صفوفها «إرهابيين»، وتعالت الصيحات والدعوات لإنهاء خدماتها، وسارعت إسرائيل التي لم تتوقف منذ عشرات السنوات، عن الدعوة إلى حل أونروا، وإنهاء خدماتها، أنها لن تسمح لوكالة أونروا أن تعود إلى قطاع غزة في «اليوم التالي» للحرب، وأخذت آلة حربها تعترض شاحنات الإمداد إلى القطاع، التي تحمل شارة الأمم المتحدة، وتدمرها، كما دعت إلى تشكيل هيئة إغاثة جديدة، مرجعيتها الإدارة المدنية التي ستتولى إدارة قطاع غزة بعد الحرب، في ظل الهيمنة والمرجعية الإسرائيلية لهذه الإدارة، على شاكلته ما هو قائم في المنطقة (ب) في الضفة الغربية، غير أن الوقائع والشهادات، بما فيها الإسرائيلية، أثبتت أننا أمام خطة إسرائيلية – أميركية، التقى فيها الطرفان عند سياستهما المشتركة في ضرورة إنهاء عمل أونروا بأي شكل من الأشكال، وقد وجد الطرفان في هذه الخطة، باتهام أونروا بالتعاون مع الإرهاب، فرصة جديدة، بعد أن فشلت المحاولات السابقة.
في 30/12/2023، أي بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على حرب أكتوبر، وفي الوقت الذي كان فيه العالم منشغلاً بمتابعة أنباء المجازر والمذابح في قطاع غزة، على يد قوات الغزو البربري، كشفت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» الناطقة بالإنجليزية، عن خطة وضعتها الخارجية الإسرائيلية من ثلاث مرحل، تهدف إلى حل أونروا، وأحالت هذه الخطة إلى حكومة نتنياهو للعمل بموجبها:
1) المرحلة الأولى هي الادعاء بإلقاء القبض على مجموعة من «الإرهابيين» الأعضاء في حماس، ممن شاركوا في الهجوم على غلاف غزة في 7 أكتوبر (معركة «طوفان الأقصى»).
2) المرحلة الثانية إثارة أوسع تحريض على أونروا، ودعوة الجهات المانحة لوقف تمويلها للوكالة.
3) المرحلة الثالثة تتولى خلالها الولايات المتحدة، قيادة أوسع حملة مع حلفائها، لتجفيف مصادر تمويل وكالة أونروا، وتعطيل برامجها، وشلها، وبالتالي اعتبارها في عداد المنحلة.
ورغم أن بعض الذين «علقوا» تمويلهم بانتظار نتائج التحقيق، والتقارير الإسرائيلية، ورغم أن هذه التقارير لم تصدر حتى الآن، فإن كافة الذين أعلنوا مقاطعة الوكالة، بقوا على موقفهم السلبي ما عدا فرنسا، التي تراجعت عن قرارها، واستأنفت دعمها لوكالة أونروا.
هل ينجح المخطط الأميركي – الإسرائيلي في اغتيال وكالة أونروا، بما هي منظمة إغاثة، يعتمد عليها في مجالات التعليم والصحة، والإغاثة، والبيئة، وتشغيل أكثر من 6 ملايين لاجئ، فضلاً عن كونها اعترافاً دولياً وشاهداً على جريمة الاستعمار الغربي عما لحق بالشعب الفلسطيني من نكبات على مدار 76 عاماً؟، أم أن المجتمع الدولي سوف يستعيد «وعيه»، ويتحرر من براثن الحملة الأميركية – الإسرائيلية لاغتيال أونروا، وإلحاق الأذى والضرر الشديدين بالمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني.
خلاصة:
• منذ لحظة قيامها، بقيت الولايات المتحدة تنظر إلى وكالة أونروا، باعتبارها أداة يمكن اللجوء إليها عند الضرورة، في إنجاز المشروع الأميركي للحل في الشرق الأوسط، تعزز دورها عند الحاجة، وتضعفه عند الضرورة، وصولاً إلى الخطة المناسبة لإطلاق الرصاصة الأخيرة عليها، عندما تأزف لحظة الحسم في حل قضايا الصراع في المنطقة.
• شكلت وكالة أونروا على الدوام، المدخل الإجباري لخطط شطب حق العودة، وفي الوقت نفسه مفتاح دفاع اللاجئين عن حقهم في العودة.
لذا يتوجب القول إن معركة الدفاع عن حق العودة، لا تنفصل إطلاقاً عن معركة الدفاع عن أونروا، وهكذا أخطأ الذين اعتقدوا أن موقف الولايات المتحدة، من أونروا كان رداً على قرارات محكمة العدل الدولية، موقف الولايات المتحدة من أونروا ليس موقفاً تكتيكياً، بل هو استراتيجي من الطراز الأول، أي أن اللاجئين باتوا في قلب المعركة، مثلهم مثل باقي أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية كما في القدس