محمد المحسن
أمد/ “الإبداع وليد المعاناة،ولا إبداع بدون معاناة”.الفيلسوف الألماني شوبنهاور
الكتابة تُعطيك فرصةً لاكتشاف نفسك حتّى وأنتَ في قمّة ألمك،تُساعدك على تفسير الأمور والحياة،بطريقة لم تكن لتدركها لولا أنّك خطَطْتَ أحاسيسك على الورق،ليست وصفة علاجيّة بالتأكيد،ولا يُمكن لها أنْ تمسح آلامك أو تنهيَها،ولكنّها تجعل لألمك معنًى وتضعه في مكانه الصحيح كامتحان قاسٍ من امتحانات الحياة الذي قد لا تخرج منه على قيد الحياة لكن تبقى على قيد ذاكرتها.
معظم الكتّاب نجَحُوا في استخلاص مادّة جيّدة للكتابة مِن حياتهم البائسة،كنوع مِن التصالح بين الكاتب والحياة،على شكل نصوص خالدة تحفظ اسم كاتبها للأبد،لم يكُن الألم وحده مَن صنَعَها لكنّه مَن صقل الموهبة وكمّلها.فأفضل الأعمال العالميّة كتبَها مُتألِّمون كفعل مقاومة،وأحيانًا كفعل ثورة.وأحيانا أخرى..كفعل تمرّد..
يوشك المقدم على فعل الكتابة،أن يكون غواصًا في بحر الألم،أو متأثرا بدواعيه وتداعياته وشجونه،تلك التي تحرك بداخلها شهوة البوح والإفصاح، أو الاندياح في سبيل العلاج لأرق مزمن قد يجتاح الفكر،أو يعتلج النفس،أو يكون تأثيره قد طفح ليبلغ الزبى،لتكون الكتابة هنا كرد فعل للألم،أو جرعة لتثبيطه..أو كما قيل إن الإنسان يدخل في غمار الشجن،قبل أن تستهلكه دواعيه.. فهل الكتابة تعد نوعًا من الشجن؟
قد تكون هذه الرؤية فلسفة لفعل الكتابة،أو منطادًا يرتاد به الكاتب آفاق تعانقه مع الكلمة والعبارة ونبت الفكرة التي تقود نصًا يقدم معالجة لشجون تلك الذات/ المعبرة عن مضمون أو منظومة إنسانية أو شريحة اجتماعية أو حالة مؤسسة للوعي بقضية الكتابة..فهل ما يحرك الكتابة دومًا هو الألم؟..أم هو الأمل كمحرك لسعي خلف عملية تذويب الألم،أملًا في انقشاعه أو تخفيفه،أو حتى إيقافه إلى حين..وهل يتوقف الألم؟
تثير العلاقة بين الكتابة والألم جدلًا ممتدًا،وإشكالية لا تتوقف عن طرح معادلاتها وتجاربها المرتبطة به ومسبباته،مع استمرار تقديم صور الألم سواء كانت ظاهرة معلنة،أو باطنة مضمرة تتخفى في أردية تسردها الكتابة أو تشعرنها،فدائمًا ما تطفو على السطح وتأخذ البريق الساطع تلك الكتابات المنغمسة في الألم،أو المتباهية به،أو التي تتخذه مناطًا وسببًا رئيسًا لتجييش العواطف الإنسانية والمواقف،حتى ترصد تداعياته ومبرراته وحبله السري الذي يربطه بواقع ربما كان أشد ألمًا،ككتابة الاعترافات،والسيرة الذاتية المليئة بأسرار الألم وبواعثه وآثاره والنتائج الإيجابية والسلبية التي تمخض عنها وجوده في حياة البشر/ الكاتب،كما نجدها في أعمال خلَّدت الألم وخلَّدها مثل:”الخبز الحافي”لمحمد شكري،و”مأساة الحلَّاج” لصلاح عبد الصبور،و”الإخوة كارامازوف” لديستويفسكي،و”البؤساء”لفيكتور هيجو،و”روميو وجولييت” لشكسبير،و”غادة الكاميليا”لألكسندر دوماس،و”بداية ونهاية” لنجيب محفوظ،والكثير من الأعمال التي تعرضت لمأساة الآلام النفسية وتجارب المرض مثل: “باولا”لإيزابيل الليندي،وغيرها..
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع :
أنكتبُ لأنفسنا أم للآخرين؟ أندافعُ بكتاباتنا عن بؤسِ العالم وبؤس الوطن أم أنَّ الأمر برمته لا يعدو كونه تسريبات لمعركة النفس الداخلية؟ ترى أيستحقُ العالم من الأساس أن يُفني أحدهم العمر من أجل الكتابة عنه وعن بؤسه اللامتناهي؟ أيستحق العالم كتابات ماركيز وبن نبي ودستوفيسكي وبيجوفيتش وكامو وكونديرا وغيرهم؟ اقرأ العالم يوماً صفحة واحدة مما كتبوه بعقل الواعي المتدبر الباحث عن الحقيقة وعن التغيير؟ ولماذا نكتب من الأساس إذا كان وقع الواقع ووطأته أكبر من حجم كلماتنا؟ وما وسعُ اللغة أن تفعله أمام سيلٍ من تدفقات الحياة اليومية التي لا تنتهي إلا بنهايتنا؟
تبدو هذه الأسئلة سرمدية للوهلة الأولى،ولا إجابات لها،على الأقل في أفقنا الفلسفي والمعرفي حالياً،وأن ما يقدم بشأنها من إجابات لا يتخطى الرؤى الشخصية التي تعبر عن تجارب شعورية ذاتية مع الكتابة.لكن وبنظرة متفحصة لهذه الأسئلة،فإننا نجدها لا تخرج عن سؤال واحد،مكون من كلمتين : لماذا نكتب؟ وما يأتي من سطور لا يعدو كونه محاولة متواضعة لتقديم رؤية شخصية لسؤال: لماذا نكتب؟ رغم اعترافي الصادق بصعوبة هذه المهمة،وربما استحالتها.
يكتبُ البعض عند حصار الألم واحتدامه في كهوف الروح،وتشتت الحال وضياع الأمر،لكن على هؤلاء أن يعلموا أن ما يكتبوه ما هو إلا نبش في قبور يودون بكتابتهم أن يغلقوها،قبور الألم والفقد واللوعة والحنين والفراق والذكريات وما جادت به قواميس العرب من مترادفات الوجع.يبحث البعض الآخر بالكتابة عن الهدى،إلا أن الكتابة لا تزيدهم إلا تيها على تيههم.فمن من القوم قد بحث يوماً في الكتابة عن الراحة ووجدها؟! يكتب آخرون لأن الواقع لا يحتمل التعايش،فيلوذون بخيالهم عن واقعهم.
هذا التصور للكتابة باعتبارها مخلصة للإنسان،أو فلنقل صديق الإنسان الوفي الذي يواسيه كلما المَّ به ضيقٌ أو حزنٌ،هي ما يدفعهم للكتابة في كل تمثلٍ للألم والمعاناة. والكتابة كانت وستظلُ مواساة الإنسان الكبرى في هذا العالم، ومخلصته من عذابات اغترابه عن عالمه وعن وجوده. فهي ميكانزماه الدفاعية أمام إحساسه الأبدي بالتيه في هذا الكون مذ لفظته أمه على هذه البسيطة. لذا فوحدهم من يعتقدون في أن فعل الكتابة لا يعدو مجرد كونه فعلاً للمواساة، وحدهم هم من يتعاطون بشغف مع الفيلسوف الألماني شوبنهاور حين يردد : “الإبداع وليد المعاناة،ولا إبداع بدون معاناة”.
قبل ستة عقود كتب ألبير كامو «إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة.ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ، فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.» يرى كامو في الكتابة ليس فقط مواساة لحظية أو شخصية لمن يعانون في لحظة ما، بل إنه يرى فيها مواساة للتاريخ،تاريخ المهمشينوالضعفاء،تصبح الكتابة هنا صوت من لا صوت له،صوت لأولئك الذين عانوا ويعانون من سويداء قلوبهم ولم يسمع بهم أحد.الكتابة بهذا التصور هى صوت المنسيين.ضحايا التاريخ الذي لا يحترم إلا الأقوياء.
يذكر ديستوفيسكي أيضاً في كتابه المراهق: “إن شفيعي الوحيد في ما أفعله الآن هو أن الذي يحدوني إلى الكتابة ليس ما يحدو إليها سائر الناس: إنني لا أكتب بغية الحصول على إعجاب القارئ و مديحه،إنما تدفعني لذلك حاجة داخلية،واستخراج ما تنطوي عليه نفسي من الأمور المعيبة و الوضيعة “. فديستوفيسكي يجد في الكتابة تنفيساً عن معاناته الداخلية،وصراعه الداخلي،وهذا هو دور الكتابة كان وسيظل،أن تخفف من معاناتنا.
أما أنا فأرى أن الكتابة هي نوع من الرحيق الروحي الذي هو بمثابة عصارة شاملة للذات الكاتبة فكرا ووجدانا وتكوينا ومزاجا حتى..والكاتب يعتصر الكتابة من قبضة الألم إلى البراح..إلا أن القابض على جمر الكتابة،قابض بالتأكيد على جمر الألم الذي لا يفارقه في كل الحالات بحثا عن الخلاص..خلاص الروح من عقال هذا الألم..