د. أحمد يوسف
أمد/ فيما الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة تمضي إلى شهرها الخامس بكلِّ وحشية وشراسة، تحركها سياسة القتل الجماعي مع التدمير الممنهج لغالبية المرافق الحياتية والتاريخية والأثرية، والاستهداف المتعمد للمقدرات التعليمية والصحية ولكافة مقومات الوجود في قطاع غزة، إلا أنَّ معظم الرسميات العربية والإسلامية تبدو -للأسف- وكأن الأمر لا يعنيها في شيء، فمن يهن يسهل الهوان عليه.. ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ!!
نعم؛ هناك من يحاول الظهور والتحرك كطرف وسيط، كما أنَّ هناك من اعتمد أسلوب مناجزة العدو بشكل محدود عسكرياً، بقصد المشاغلة أو بهدف رفع العتب وإبعاد الحرج، بعد أن أفرط البعض الفلسطيني في الطنطنة والعزف على وتر “وحدة الساحات”.
لا شكَّ أنَّ جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن وحزب الله اللبناني قدَّما الكثير مما يستوجب الثناء والتقدير.
ورغم التقاعس والتخاذل في المواقف العربية والإسلامية الحاصل الآن، فإنَّ من الإنصاف القول: إنه في كلِّ الحروب السابقة والتاريخية مع دولة الاحتلال، فإنَّ مشهد الصراع كان مغايراً في وقائعه وتفاصيله، حيث كنَّا نشعر دائماً بتواجد عمقنا العربي والإسلامي حاضراً، وأنَّ لهم ركزاً من حيث المكانة والأثر، إذ كانت التظاهرات المليونية الحاشدة المنددة بالعدوان تجوب كلَّ عواصم دول المنطقة، وتبعث بقبضتها وهتافاتها الكثير من رسائل التهديد والوعيد بالرد والانتقام، بما يبعث على الخوف والقلق لدى صانعي السياسة في الدول الغربية، فتتحرك سريعاً عجلة الدبلوماسية ووسطاء الحرب والسلام الدوليين، بحثاً عن وقفٍ عاجلٍ لإطلاق النار، وتسوية سياسية تضع معها الحرب أوزارها.
اليوم؛ للأسف، لا يبدو أنَّ هناك جواراً عربياً يردع، ولا عمقاً إسلامياً له هيبة القوي المتين، وكأن فلسطين القضية والمكان ليست همَّاً عروبياً قوميَّاً أو مقدَّساً دينياً في التوراة والإنجيل والقرآن!!
إنَّ ما نشاهده اليوم هو شعب يقاتل ببسالة من أجل قضية أمته المركزية، وفي المقابل هناك أمةٌ قد تغشَّاها -وحسرتاه- سُبات عميق أشبه بصمت القبور، يحاصر رجولتها ونخوتها من كلِّ جانب، في مشهدية من النطيحة والمتردية وما أكل السبع!!
في الحقيقة، كانت عملية السابع من أكتوبر العسكرية حدثاً غير مألوفٍ في ساحة الصراع مع إسرائيل، من حيث تمريغ أنف العدو في التراب، وكسر هيبة “الجيش الذي لا يقهر”، والتأكيد -ميدانياً- على أنَّ إسرائيل هي دولة “أوهى من بيت العنكبوت”، وأنها كيانٌ مصطنع تمَّ غرسه في المنطقة ليكون ذراعاً استعمارياً للغرب، يحمي مصالحة ويسهر على حمايتها، مع المحافظة على تبعية دولها إليه.
إنَّ عملية السابع من أكتوبر العسكرية كشفت “حالة الوهن” التي عليها إسرائيل، وأنه لولا “الفزعة الأمريكية” والتحرك الذي قامت به العديد من الدول الأوروبية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا لنجدة إسرائيل وإنقاذها من هذه “الإهانة المُدوّية” لجيشها، عبر توفير الدعم العسكري والاستخباراتي واللوجستي، وكذلك بحشد المواقف السياسية والدبلوماسية لصالحها في المحافل الدولية، وإسناد ادعاءاتها في حربها العدوانية على قطاع غزة، الأمر الذي ترتَّب عليه إحجام الكثير من الدول العربية والإسلامية عن إظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتشديد الرقابة والقمع على كلِّ من يحاول التحرك ورفع عقيرته مندداً بالعدوان وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
لقد نجحت الدعاية الإسرائيلية في إلباس حركة حماس ثوب الشيطان (demonization)، وتمكنت من تسويق روايتها بأنَّ من يقف خلف الحركة إنما هو داعم للتطرف والإرهاب، وأنَّ حركة حماس هي الوجه الآخر لتنظيم الدولة (داعش)، الذي يستهدف بإرهابه الإطاحة بالأنظمة العربية الموالية للغرب!!
للأسف؛ لاقت هذه المقولة “حماس هي داعش”، والمقاومة الفلسطينية ليست أكثر من حالة إرهابية، وأنَّ الغرب قد شنَّ حرباً ضروساً لمواجهتها، وحرضَّ على ذلك دول العالم للوقوف خلفه، باعتبار دلالات ذلك التصريح أو التحذير الشهير، الذي أطلقه الرئيس بوش عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومفاده: أنًّ من ليس معنا فهو ضدنا!!
منذ ذلك التاريخ، تحولت كافة أشكال المقاومة إلى إرهاب، وصار الفعل النضالي الوطني مستهدفاً بالملاحقة والشيطنة واتهامات التطرف والإرهاب!!
لقد تسببت هذه الاتهامات الغربية والأمريكية -على وجه الخصوص- في تراجع أغلب المواقف العربية الرسمية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وفي سَنِّ القوانين ووضع السياسات التي تَحُدُّ من تقديم المساندة المالية والحركية أو إظهار النصرة والتأييد الشعبي الواسع لها.
إنَّ ما خرجت به قمة الرياض الإسلامية في الشهر الأول للحرب لم يكن بمستوى الكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ جاءت تصريحات رؤساء دول المنطقة لا تُعبر بصدق عمَّا هو مطلوب عمله من أجل وقف العدوان على قطاع غزة، ولعل كلمات جوليا بطرس في صرختها المدوية “وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟! وين وين؟” هي أصدق تعبير عن وضعية الاستناخة القائمة ولحظات الغياب المستشرية، لأمة كانت فضاءات تاريخها تمتد طولاً من مطلع الشمس ومغربها.
إن من أبجديات العمل المقاوم أن تكون هناك شبكة أمان (دولة تمكين)، لحمايته سياسياً ومالياً وأخلاقياً وشعبياً، وهذا ما سبق وأن شاهدناه في نضالات الفيتناميين ضد الاحتلال الأمريكي لبلادهم، وفي جهاد الشعب الأفغاني ضد السوفيت، وقبل ذلك جهاد الشعب الجزائري ضد الفرنسيين…الخ
للأسف؛ في مشهدية النضال الفلسطيني، لا يبدو الحال كذلك، إذ وقف الجميع من عرب وعجم يتفرجون على مشاهد الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة، وكأنهم يتفرجون على فيلم كرتون (توم وجيري) أو لعبة (ببجي)!!
وعليه؛ فإنَّ التقييم المعياري لحالة الأمتين العربية والإسلامية هي وضعية “الهوان على الناس”، التي لا اعتبار لها في حسابات القوة والقيمة والمكان بين الأمم.
إن عملية السابع من أكتوبر وحرب الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة، والتي راح ضحيتها في مطلع شهرها الخامس قرابة المئة ألف شهيدٍ وجريح، كانت نتاج أكثر من ألفٍ وخمسمائة مجزرة وجريمة بحق الإنسانية، تمثل في مشهدية الكارثة والبطولة ملحمة صمود لشعبنا الفلسطيني ورافعة عزٍّ لذكرى مظلوميته، فيما تبدو إسرائيل هي الوجه الآخر للنازية المعاصرة في إطلالتها ووجهها القبيح.
إنَّ صفحات التاريخ ستسجل بعد هذه الحرب العدوانية على قطاع غزة أنَّ الصهيونية والنازية هما وجهان لعملة استعمارية واحدة، وأنَّ من كانوا ضحايا المحرقة (الهولوكوست) من أدعياء الساميِّة، إنما هم من يمارسون الإبادة الجماعية -اليوم- ضد الساميين الحقيقيين من أبناء فلسطين، وأنَّ كذبة “معاداة السامية” التي تمتهنها إسرائيل والصهيونية الدينية لملاحقة كلّ من يوجه الانتقاد لمجازرهم ضد الفلسطينيين، قد صارت مفضوحة، حيث غدت إسرائيل كياناً مارقاً (Rouge State) تمارس الإرهاب والعدوان، وليس الدولة الضحية المطلوب من العالم حمايتها والدفاع عنها.
ثانياً؛ إنَّ من خذلوا شعب فلسطين من العرب والمسلمين، وتخلوا عن نُصرته والوقوف إلى جانبه في محنته، بل الأدهى والأمر التزم الصمت عمَّا ارتكب بحقه من مجازر وإبادة جماعية، ستذكرهم صفحات التاريخ ومعلقات العرب بأنهم من خانوا وتقاعسوا وتواطؤوا، وأنَّ الفلسطينيين كانوا هم تاج الفخار وأرطغرل ذاك الزمان، فيما كانت “أُمة الخيرية” على الناس قد أضحت مهيضة الجناح تائهة بين الأمم!! ولسان حال من يندبها ويرثي حالها من الفلسطينيين هو: آه يا أمتي.. عدِّي رجالك عدِّي، من الأقرع للمصدي!!
ختاماً.. ونحن نعيش مشهد “الكارثة والبطولة” لا نملك إلا القول:
تجري الرياحُ بما شاء الإلهُ لها.. لله نحن وموجُ البحر والسفن
أفيقي يا بقايا أمةٍ كانت عظيمة.