محمد المحسن
أمد/ (اجعل الرداءة تعمّ حتى تصبح عادية ثم مستساغة ثم مطلوبة.” ( المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي )
عاد الجدل مرة أخرى كما السنوات القليلة الماضية حول جودة الإنتاجات التلفزية،أمام تضارب الأرقام بين القنوات حول نسب المشاهدة.
“وفرة الإنتاج،الاحتكار،والقيمة الفنية”..هي جملة من الانتقادات الموجهة إلى القائمين على القطاع،أدت إلى تعميق الأزمة بين المشاهدين والتلفزيون التونسي..
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
هل نحن فعلا أمام أعمال لها قيمة إبداعية تسهم في تطوير ذوق المتفرج،وتجعله يستمتع بما يشاهد بل وينمي رؤيته لذاته وللعالم ككل،أم أننا أمام أعمال قد يبدو أنها فيها جهد محدود ما هنا أو هناك،لكنها مجوفة،لا روح فيها ولا تُمارس “سلطتها” الذوقية والفنية والجمالية والإنسانية ككل على المتفرج..؟
هنا أقول : إن الإبداع عموما هو رحلة بحث وتكوين وتاريخ مشاهدة وإطلاع على الذاكرة الفكاهية والتاريخية والثقافية وكذا السياسية المتعلقة بذات المتلقي والآخر في أفق الإمساك عن فرجة تخلق التلذذ للمتفرج وتسمو بحواسه وتكونه بالتالي قيميا وجماليا وإنسانيا..
وهنا أتساءل أيضا: هل نملك،فعلا،مشروعا ثقافيا وبصريا وسمعيا إلخ،يجعل من الذات الثقافية موضوعا إبداعيا جماليا مولدا للعديد من الدلالات؟.
إن التلفزيون مؤسسة سياسية واجتماعية وثقافية ذات أدوار أساسية في المجتمع: مصدرًا للأخبار عن الشؤون العامة وفضاء للنقاش السياسي،ومحملًا من محامل الثقافة الوطنية وجسرًا بين الناس وتراثهم وذاكرتهم ومرآة تعبر عن تنوع المجتمع.
ولكن..
إن الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا هي الآتية : من يجب أن يحدد مضامين التلفزيون وهويته وما يجب أن يكون عليه وما يجب أن نشاهد؟
هل يجب أن نترك مصير التلفزيون في أيدي قوى المستثمرين يصممون التلفزيون وفق أهوائهم ومصالحهم ثم مراقبة التجاوزات الحاصلة في مستوى المضامين؟ أم أن المجتمع يمكن له بواسطة التعديل أن يحدد بنفسه التلفزيون الذي يريد؟
لقد أجاب المرسوم 116 الذي ينظم قطاع الإذاعة والتلفزيون في تونس على هذا السؤال بشكل صريح لا لبس فيه لأنه تضمن هذا التصور المعياري للتلفزيون (أي بمعنى أخر ملامحه الكبرى وهويته وما يجب أن يكون عليه) بما أنه مرفق عمومي (بما في ذلك التلفزيون الخاص) حتى ولو كان لا يستخدم التمويلات العمومية أو شبكات البث الهرتزية.
ينص الفصل 15 من المرسوم المذكور على العديد المبادئ التي يستند إليها تعديل المشهد السمعي البصري ومنها دعم حقوق العموم في الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام،والسهر على برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة، وتشجيع برمجة تربوية ذات جودة عالية،وأيضًا من الأهداف التي وضعها المرسوم للهيئة تنمية برمجة وبث يعبران عن الثقافة الوطنية ودعمهما.
وهنا أذكّر : أطلق صحفيون في السنوات القليلة الماضية حملة “صحفيون ضد الرداءة” للتنديد ببعض البرامج التلفزيونية التي توصف بالرديئة ثم انطلقت حملة أخرى شعارها “لا تجعل من الحمقى مشاهير”.وتعاظمت بشكل عام الشكوى مما يسمّى برامج “الرداءة” حتى أن حملات أخرى نظمت لهجرة التلفزيون ومقاطعته على غرار”حملة سل الفيشة”.ولا يتردد الناس عن التعبير عن اشمئزازهم وامتعاضهم من هيمنة برامج “الرداءة”.
لكن السؤال الذي لا يطرحه المنددون،من النخب أو من الناس العاديين،بهذه البرامج التي يقوم عليها نموذج التلفزيون السائد هو أسباب طغيانها في المشهد التلفزيوني: هل هو ذوق الجمهور الهابط مثلًا الذي تستجيب له القنوات التلفزيونية كما يردد ذلك البعض وفي هذه الحالة فإن هذه البرامج ليست سوى انعكاسًا لثقافة التونسيين أم أن الأمر يتعلق باستراتيجية إرادية غايتها خلق جمهور لهذه البرامج للحصول على موارد إشهارية؟ ثمة أيضًا سؤال آخر لا يقل أهمية وأكثر عمقًا: هل يساهم سياق تنظيم (أو تعديل) التلفزيون الخاص في طغيان هذه البرامج؟
تحيل “برامج الرداءة” إلى ما يسمّى “تلفزيون القمامة” الذي يقوم على الترفيه باستعمال كل الطرق والوسائل المتاحة، فغاية “تلفزيون القمامة” استقطاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين لتحويلهم بعد ذلك إلى سلعة لصالح المستشهرين الذين يبحثون عن أهداف إلى إشهارهم أو بالأحرى مستهلكين إلى بضائعهم.
ولكن..
ليست “الرداءة التلفزيونية” ابتكارًا تونسيًا،فهي في كثير من الأحيان مستوردة من القنوات الأوربية والفرنسية على وجه الخصوص تمت “تونستها” إذا أردنا.وفي المقابل،لا تمثل هذه البرامج في السياقات التي اُبتكرت فيها سوى جزءًا من المشهد التلفزيوني،ولا تمثل إذًا هذه البرامج مشكلًا في ذاتها لأنها ليست استثناءً تونسيًا،ولأن الناس أحرار فيما يشاهدون والمطالبة بإلغائها هو نوع من الحكم الأخلاقوي ذي النتائج الوخيمة عندما يتعلق الأمر بإخضاع التلفزيون والميديا إلى أحكام أخلاقية.لكن يكمن المشكل في هيمنة هذا النوع من البرامج وبشكل عام في تنميط المشهد التلفزيوني.
السِؤال الجدير بالطرح الآن: هل يعبر المشهد التلفزيوني على التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي للمجتمع التونسي؟ وهل يحقق حاجات التونسيين إلى تلفزيون متعدد الأبعاد والوظائف أي الأخبار والنقاش السياسي والبرامج الثقافية والمعرفة (الفنون والمسرح والسينما والأدب) وتمثيل مظاهر حياة التونسيين المتنوعة والمختلفة؟
لا شك أن المشهد التلفزيوني غير متوازن بالمرة يقوم بشكل كامل تقريبًا على طغيان الترفيه والتسلية الذي يمثل في الحقيقة خضوع التلفزيون إلى منطق السوق بشكل يكاد كليًا. بمعنى آخر، لا يخدم المشهد التلفزيوني الجمهور بقدر ما يخدم مصالح القنوات التلفزيونية في الحصول على أكبر قدر ممكن من الموارد الإشهارية.وتستخدم هنا آلية قيس الجمهور كآلية مختالة للشرعنة أي لإضفاء شرعية لنموذج التلفوني التجاري المحض عبر إظهار هذا النوع من التلفزيوني باعتباره نوعًا شعبيًا.
إن التلفزيون السائد لا يليق بنا ولا يعبر عما نحن عليه كتونسيين لأنه يحولنا إلى حمقى مستهلكين لا يعلي فينا سوى حاجتنا الطبيعية إلى الاسترخاء، ولا يعطينا الفرصة أن نكون أحسن مما نحن عليه، يقوم على إثارتنا عبر مشهدة السياسة بشكل يؤجج فينا الأهواء والمشاعر فيحولنا إلى كائنات عاطفية ومنفعلة.ولهذه الأسباب يهجر بعضنا التلفزيون أو يشعر بعضنا الأخر بالخجل عندما يشاهد بعض برامجه.
و أختم بما يلي: إن الرداءة التلفزيونية هي تعبير عن أزمة التلفزيون برمته كمؤسسة اجتماعية وثقافية،وهي مؤشر على أن هذه المؤسسة لا تقوم بأدوارها لأن قوى السوق اختطفتها لتحويلها إلى مؤسسة تجارية مما يستدعي تحويل هذه الأزمة إلى مشغل عام سياسي والعمل على تحويل التلفزيون الجيّد إلى مطلب مجتمعي (أي مطلب كل التونسيين) يقتضي بدوره سياسة عمومية.
وأرجو..أن تستساغ -رسالتي المقتضَبة-جيدا.