أمد/ طوال الأيام الماضية لم أسمع غير أخبار الحرب وفجائعها، ومفردتين أشد وقعا ووجعا من الحرب ذاتها، هما الموضوعية والمهنية.
وفى لقاءات لا تنتهى من عالم افتراضى، إلى عالم واقعى مليء بالفراغ أكثر، لا يتوقف طرح المحللين عن ضرورة أن تتقبل الحقائق مقلوبة بحجة أن تلك هى الموضوعية!. فى العمل الإعلامى، والواقعية السياسية.
والقول عن حيادية الإعلام العالمى المهيمن نكتة تبعث على الحزن، لا توازيها غير سخرية (حياد) المنظمات الدولية.
هناك حالة اختلال مرعبة وانهيار قيمى واسع، وإذا كان الإعلام الغربى يعمل ذلك بوعى، فإن المحزن حالة التقليد التى تدمر بعض الجسم العربى وتجرف قيمه الإنسانية.
كشفت حرب غزة مؤخرا هذا الكم الهائل من الزيف، حيث ينساق الكثير إلى فرضية يراد تكريسها وهى أن تاريخ القضية الفلسطينية يبدأ مع السابع من أكتوبر 2023م لا غير، وكأن كل ما جرى منذ 1948 كان قصص خيال للأطفال تروى قبل النوم مثلا!.
وكشف واقعنا على المستوى الدولى، عن تدمير أبرز مهنتين هما، الإعلام والحقوق، فقديماً كانت شهادة القانون ومهنة المحاماة تحظى بتلك المهابة التى تجعلها ضمن قدسية القضاء، وإذا بها الآن مجموعة أنشطة وإذ المسمى العجيب (ناشط حقوقي) يصبح واقعا، بدأ كهواية وأصبح مهنة، ويتلقف ذلك ويروج له الجناح الذى ضرب الجزء الآخر من المنظومة، عبر مصطلح (ناشط إعلامى)، وهذه قفزة أخرى فى فراغ يدمر مهنة كانت تصنع الرأى العام وتصون الحقوق وتدافع عن قيم النزاهة والاستقامة.
الآن نحن محاطون بجيش من المؤثرين فى العالم الافتراضى، وذاك عالم غير محكوم بمؤسسات فعلية، لديها نظمها ورقابة المجتمع، بقدر ما هو عالم شبحى، يسوق قيما ويقود حملات عبر فضاء إلكترونى واسع، توكل له مهام واضحة فى ضرب الخصوم وتكريس قيم مختلة.
والمهمة إلكترونيا وسياسيا تتوسع لتغدو أكبر من مجرد حرب سيبرانية للهواة، إلى تدمير الآخر بكل قسوة القتل المعنوى، وتشويه الوعى الجمعى، وترسيخ التفاهة، بل وتزوير التاريخ.
فالأمر ليس مجرد شيء عابر بسبب تطور التكنولوجيا، لكنه رؤية سياسية تعبر عن أيديولوجية راسخة، حيث تجد فى قمة العمل السياسى والإعلامى قبل التجارى، هذا الترسيخ لحضور هؤلاء الفاعلين.
قبل أسبوع رأيت صحفيا هو مسئول مكتب واحد من أبرز الصحف العربية، وقبل أن أسأله عن الأحوال والنشاط الصحفى رد محبطا، لاشيء غير أن نتابع عالم المؤثرين فى منصات لا آخر لها، حيث تريد الحكومات المؤثرة أن تحدد مساحات العقل والتوجيه للرأى.
نعم الموضوعية أننا لا نساوى بين قوتين غير متكافئتين، لكن من يقرأ خطك يا عريج كما يقال؟، وفى القانون الدولى يجب استخدام القوة بما يتناسب وحجم الفعل ورد الفعل.
اما المهنية سواء كإعلام أو منظومة حقوقية فيجب أن نسمى الأشياء بأسمائها فالجريمة جريمة، والقاتل قاتل، وهدم الطيران للمنازل على رءوس الأطفال، ودك المدارس والمستشفيات ليست معركة، بل اسمها جريمة وعدوان
ومن باب العدالة ألا نساوى مثلا بين الاحتلال والمدنيين فى توجيه الإدانة.
أما التكريس على أن المساواة بين الضحية والجلاد يعد موضوعية، فنحن فى حقيقة الأمر نطلق النار على أنفسنا كمدنيين، مجاملة للقوى المتحكمة لا للقيم المثلى التى يجب أن نؤمن بها.
وعندما نقول علينا أن نقول الصدق فذلك لا يحتاج إلى تورية، والحقيقة أننا نفقد احترامنا لأنفسنا عندما نتبع سرديات، واضح كذبها.
ويجب أن ندرك أن التحيز الأيديولوجى والهوس الدينى مسيطرٌ على مؤسسات دولية، وعلى العالم الأول، مثلما هو فى العالم الثالث.
ويجب أن ندرك أن الصراع الدولى، أكثر من مجرد تقاطع مصالح، إلى فرض وجود وإلغاء للآخر.
ذاك جزء من الصورة لعالم مختل يحيط بنا، يجعلنا بحاجة إلى مراجعة موضوعية لكل تفاصيل المشهد، وأوله بناء سليم لمجتمعنا ودولنا، لنعيد الاعتبار لقيم الديمقراطية والعدل، حتى لا نغدو مجرد رقم فى حساب خاطئ.
فبناء أسس الدول الحديثة، والتصالح مع المجتمع هو أساسنا الأول. لنكون رقماً بين الشعوب، لا مجرد فريسة يترقب سقوطها الجميع.
نعم نحن لا نستطيع إصلاح الكون، لكن يمكننا إصلاح بيتنا وحماية أنفسنا، مدركين (أننا نعيش فى عالم صعب وخياراته محدودة للنجاة، ولكن أسوأها أن تختار البقاء ساكنا ولا تحرك شيئا)