الحبيب عكي
أمد/ لا شك أن الجامعة المغربية تعد قاطرة فعالة للنهوض اللازم والممكن بالمعرفة الأكاديمية والتكوين المهاري والبحث العلمي، أس وأساس التنمية الشاملة والمستدامة في البلاد، وذلك بما تتيحه لروادها وتضعه بين أيديهم من أساتذة وباحثين.. قارين وزائرين، من مسالك ومسارات وشعب ووحدات علمية وأدبية اجتماعية وقانونية.. متعددة بتعدد توجهاتهم واحتياجاتهم.. شغفهم وميولاتهم.. التي هي في الأول وفي الأخير احتياجات وتوجهات.. تحديات ورهانات الحياة التي لا تنجح الشعوب ولا تنهض إلا بالقدر الذي تستجيب لها.
وعلى عكس بعض التمثلات السلبية السائدة، فطبيعي أن يقدم على الجامعة ذات الاستقطاب المفتوح أو حتى المحدود.. العمومية منها أو حتى الخصوصية، كل الطلبة الشغوفين بالدراسات العليا.. كل الباحثين الذين يتخصصون في مجال أكاديمي معين.. كل الموظفين الذين يريدون استكمال دراستهم والترقي بشواهدهم.. كل المتقاعدين الذين يحركهم شغف العلم ومتعة المعرفة والبحث والتقاسم.. ولما لا، كل أبناء الشعب (في الجامعات الشعبية) الذين يريدون إعادة شحن أنفسهم بعدما أفرغوه من طاقتهم في دروب الحياة ومتاهاتها.
والجامعة بكل هذه الأهمية الاستراتيجية في التنمية الوطنية، وكل هذا الاستقطاب المفتوح بعشرات ومئات الآلاف من الطلبة والطالبات.. وكل هذه المسالك والمسارات.. من إجازات وماسترات ودكتورات وأطروحات، نتساءل مجرد تساؤل، هل من حقنا كمستفيدين معنيين وباحثين.. أن نساءل كل هذه الفضاءات والمختبرات والمحترفات.. والسياسات والوزارات والمخططات.. والمؤسسات والإدارات والميزانيات.. هل حققت الجامعة المغربية أغراضها وأدت أدوارها.. وإلى أية حدود؟. أي عائد علمي ومعرفي ومهاري لها على شخصية الطلبة والطالبات واندماجهم وتقوية عودهم وحسهم المواطناتي.. القيمي والأخلاقي؟. أو كيف تتعامل الجامعة مع بعض إن لم نقل العديد من المعيقات لكل ذلك؟.
ونحن في نهاية الأسدس الأول من الدراسة الجامعية 23/24 ، وبعد اجتياز امتحاناته بسلام وخروج نتائجه بغير سلام، لا زال الرأي العام الطلابي مثلا، يسجل وبدرجات متفاوتة القوة، لماذا مسألة الاندماج في الوسط الجامعي لا زالت مطروحة وممتدة عند الكثيرين عبر الزمان والمكان؟، أين هي الحياة الجامعية والمتعة المزعومة حولها؟. لماذا مسألة النمط التعليمي لازال مقتصرا في الغالب على الحضوري في غياب النمط عن بعد أو حتى النمط الهجين الذي يناسب معظم الطلبة نظرا لظروفهم الاجتماعية والتزاماتهم المهنية التي لا تسعفهم على الحضور الدائم؟. لماذا المعضلة الاجتماعية نفسها يعاني منها الجميع بين السكن المزري والإيواء المحدود.. بين النقل والكراء ومصاريف العيش الباهض؟، إلى غير ذلك مما يستهلك كل طاقة الطالب والطالبة ويؤثر على نفسيته بعيدا عن التركيز في أهدافه ودراسته الجامعية؟.
وبالتالي، نتساءل أيضا عن نوع الخريج في حال استمرار هذه المعضلات الدراسية والاجتماعية وتراكمها؟، في غياب مقررات دراسية رسمية والمراجع الأساسية والتكميلية لمختلف الشعب والمواد؟، في عزوف الطالب والطالبة عن القراءة الموسعة والبحث المعرفي خارج الامتحانات (الكابوس الفزاعة والدابة السوداء للجميع)، في إطار وحدة المهارات الذاتية التي أتى بها النظام الجديد ولكنها – مع الأسف – تدرس نظريا وهي مادة مهارية يعني تطبيقية وعملية؟. في غياب الأنشطة الموازية وعدم الاقبال على أنديتها وهي المرشحة للمساهمة في تحقيق الاندماج وتخفيف بعض الضغط وتنمية التوازن في شخصية الطالب والطالبة؟. بل في غياب وضعف حتى الأنشطة النضالية وسكون النقابات الجامعية والاتحادات الطلابية، وفقدان الكثير منها لجاذبيتها إن لم تكن مصداقيتها، وهي التي كانت طوال تاريخها مشتلا لإنتاج النخب والزعامات المجتمعية بمختلف حساسياتها وخلفياتها السياسية؟.
أسدس من التيه الطلابي والضعف التواصلي من طرف الجامعة، الشيء الذي لم يبقي لعشرات الأسئلة الطلابية إلا مجموعاتهم الواتسابية والتي بسبب غياب المعلومة الصحيحة، يخبطون فيها خبط عشواء، فمتى ستبصرهم الرقمنة الجامعية أم ستبقى تسير على خطاها الحلزونية التي لم تمكنها حتى من تحيين الموقع الإلكتروني للجامعة وفق النموذج الجامعي الجديد وبرامجه وكلها لا تزال فيه قديمة وناقصة؟. جاءت الامتحانات، وللحقيقة فقد كانت سلسة ومنظمة أحسن تنظيم، لم يكن فيها غش ملحوظ، ربما بما شارك في برمجتها ممثلوا الطلاب، لكن، كيف كانت في جوهرها: نصف المدعوين غائبون؟، ونصف الحاضرين خرجوا من قاعات الامتحانات من بداياتها، ليبقى من بقي يجتاز امتحانا يتمنى أن يكون فيه موفقا؟. لكن، من جهة أخرى، ألم يكن كثير من الأساتذة الفضلاء يساهمون في إنتاج هذه الوضعية المأساة، إذ تدرس عنده حضوريا أسدسا كاملا بدون مرجع ولا مطبوع مساعد ولا ملخص مختصر مفيد؟. هذا الأخير الذي يتفضل سيادته بوضعه في كشك الجامعة للنسخ أسبوعين أو ثلاثة قبيل الامتحان، ويصبح الطالب ملزما لمراجعته واستيعابه في أقل من شهر بدل فعل ذلك على مدى ستة أشهر كاملة وعلى مهل وتركيز ومناقشة موسعة لو تمكن منه منذ البداية؟.
إن الجامعة المغربية نسق وصرح علمي معرفي.. تكويني.. مهاري.. وطني.. تنموي.. استراتيجي بامتياز، ولا يمكن لصرح هذا النظام النسقي أن تدور حلقاته بالشكل المطلوب وفي الاتجاه المطلوب وبالمردودية المطلوبة، ما لم يحقق نوعا من الانسجام والتكامل الوظيفي والبنيوي بلغة أهل علم الاجتماع. أكيد، لا يمكن الجزم على أن كل الجامعات المغربية على هذا المنوال المشخص هنا من ميدان حرمها، وأكيد، أن هناك استثناءات واجتهادات وإبداعات مغايرة وثرية هادفة وميسرة رغم الاكراهات، وعليها، نرجو لبعض المواقع المتعثرة أن تبدع إبداعها وتحذو حذوها، على اعتبار أن هناك حقيقة ساطعة وهي أن هذا المغرب الحبيب والذي في رصيده الجامعي حتى الآن 12 جامعة عمومية مفتوحة تضم 149 مؤسسة تابعة من كليات جهوية ومتعددة التخصصات.. من معاهد ومدارس عليا.. وجامعات خاصة أو ذات شراكة مع الدولة.
مغرب يبذل الغالي والنفيس في تكوين أزيد من 300 ألف من الطلبة والطالبات الجامعيين، وبالمجان، وعلى عكس ما يوجد حتى في كثير من الدول المتقدمة، لا زال بلدنا الحبيب يسمح بولوج الدراسة الجامعية بالمجان للجميع، بل ويؤدي بعض مصاريفها على المحتاجين، بمنح عدد منهم لا يستهان به وفي مختلف المراحل الجامعية من الإجازة إلى الماستر فالدكتوراه، كل هذا وغيره من تحدياتنا التربوية والتنموية.. القيمية والحضارية، يحتم علينا تضافر الجهود بين كل المعنيين والفاعلين، كل من مكانه وبإمكانه، لتجاوز العقبات والرقي من مثل هذه الأوضاع الجامعية المتعثرة والمتواضعة والبعيدة عن واقع الطلاب وهمومهم الميدانية الدراسية والاجتماعية، إلى ما هو أفضل، لأن المستقبل لا يكون إلا لمن يملك الأفضل، وبلدنا الحبيب يستحق أفضل الأفضل؟.