وليد العوض
أمد/ بعد فترة حصار عسيرة امتدت لسبعين يوماً قد أمضيناها منذ أواخر أكتوبر حتى منتصف ديسمبر 2023 في جمعية الشبان المسيحية في شارع الجلاء، وخروجنا تحت النار بعد سقوط عدد من الشهداء والجرحى. وبعد عدة أيام من مكوثنا في منطقة الميناء، كنا في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر الماضي، قد عدنا للبيت حيث نقيم في منطقة دوار أبو مازن جنوب غرب مدينة غزة.
المنطقة الممتدة من دوار انصار وحتى اطراف غزة الجنوبية، كلها قفراء لا يوجد بها ساكن بعد ان هجر اصحاب البيوت منازلهم ونزحوا باتجاه الجنوب منذ بداية الحرب، خالية تماما حتى من القطط والكلاب، وباتت عرضة برمتها لعصابات اللصوص كما هي عرضة للقصف والقنص الذي لم يتوقف، ومسرحاً للقوارض.
حين قررنا العودة للبيت، كنا ندرك حجم المصاعب والخطر المتوطن في كل مكان بقطاع غزة، ولكن عقدنا العزم على الرجوع إليه رغم كل ذلك، حيث لا ماء إلا تحت الرصاص ولا طعام إلا ما نتدبره وفقاً لثقافة الحصار التي عايشناها طويلاً. رويداً رويداً استجمعت عائلتين أو ثلاث عزيمتها وجاءت للسكن في العمارات المجاورة، مما أضفى شيء من روح الحياة.
منذ اللحظة الاولى وضعنا أمامنا مهمة وقف اللصوص ومنعهم من الاستمرار في نهب مقتنيات البيوت التي تنتظر اصحابها، واجهنا في ذلك صعوبات ومشاكل جمة استخدمت فيها العصي والآلات الحادة أحياناً، إلا اننا نجحنا في مبتغانا وباتت المنطقة ممنوعة على لصوص الحروب.
كنا معاً في العائلة وبرفقتنا عائلة أخرى ممن عايشونا أيام الحصار في جمعية الشبان، وفقدت ثلاثة من أبنائها. أمضينا ساعات طويلة وقاسية لنتدبر ما أمكن من المياه، قمنا بتشغيل مولد لسحب المياه المالحة قبل أن نقفز ونتنقل بين بقايا البيوت والعمارات المدمرة للحصول على مياه صالحة للشرب حتى تعيننا على الحياة التي انتظمت تدريجياً رغم استمرار القصف والقنص والتوغل بين الفينة والأخرى، وقد بلغ ذروته صبيحة الخميس 18/1/2024. فتحت غطاءٍ الطائرات ووابل كثيف من القصف والنيران، سارت عشرات الآليات وفي مقدمتها جرافة ضخمة، متجهة من جنوب غرب مدينة غزة نحو منطقة كيرفور ودوار ابو مازن، وعبر شارع الرشيد مروراَ بمنطقة الشاليهات نحو مفترق انصار والجامعات، وبدت وكأنها تعيد احتلال المنطقة من جديد. الاليات وناقلات الجند تجوب الشوارع وهي تطلق النار على كل متحرك، هذا الأمر فرض علينا عدم مغادرة البرج الذي نقيم به، ومع اشتداد القصف وأزيز الرصاص وتطاير الزجاج المتبقي أصبح من المحظور حتى التحرك داخل البرج نفسه، وحين يشتد الخطب أكثر، يصبح التحرك داخل الشقة محفوف بالمخاطر.
وهكذا فقد غدا الحصار ليس للبرج او الشقة فحسب، بل حتى داخل الغرفة ذاتها التي اجتمعت فيها ثلاث عائلات في شقة واحدة، وقد بدأ الأمر كانه سيمتد لأيام، مما اقتضى التزام صارم باقتصاد الحصار وآلياته، في توزيع الخبز الذي تعده النساء على كل فرد بمقدار رغيف أو اثنين ووجبة فقط في اليوم الواحد. التسلل لإحضار المياه من خزانات محطمة تحت البرج بطريقة أقرب للمغامرة، حيث يراقب احدٌ الطريق والآخرون يتناولون من بعض أوعية المياه في عملية قد تستغرق دقائق، ولكن في إحداها فاجئتنا قذيفة مدفع أصابت الطابق الرابع عشر، فانهارت أجزاء منه فوق خزانات المياه لتحطم ما تبقى منها.
مياه الشرب التي كنا قد أحضرناها، أخذت بالنفاذ وبدأنا بتقنين استخدامها، بحيث أصبح لكل فرد زجاجة واحدة كل يومين، وبدأنا بالتفكير بما العمل إذا ما استمر الحصار الذي يشتد ومعه تتساقط القذائف متتالية ورشقات نيران الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وجنازير الجرافات تزأر إلى جانب طلقات قناصة تبحث عن اصطياد كل متحرك.
هذا الوضع القاسي الذي عشناه لا يختلف بكل تأكيد عن قسوة ما يعيشه أهلنا في مختلف أرجاء قطاع غزة، حيث تستمر حرب الابادة الجماعية منذ ما يزيد عن ثلاثة شهور ونصف، كما يعيش ما يماثله شعبنا في الضفة الغربية بشكل يومي. استمر هذا الحال طيلة يوم الخميس والجمعة والسبت وامتد حتى الاحد والاثنين وصبيحة يوم الثلاثاء 23/1/2024، حين سمعنا صوت جارنا حميدو يصدح من العمارة المقابلة ينادي بأعلى صوته ان الاحتلال انسحب من المنطقة، فخرج الأطفال والنساء قبل الرجال يتعانقون بعد زوال الغمة هذه، وبدأت الناس تتوافد بحذرة للمنطقة للاطمئنان علينا بعد ان ظن البعض أننا اعتقلنا أو تم ابعادنا قسراً نحو الجنوب أو قضي علينا اسوة بألاف الشهداء. هذه الغزوة الاحتلالية في الحرب المستمرة أسفرت عن تدمير عدد من الشقق والمباني وتخريب متجدد للطرقات، واعتقال واقتياد عدد من الشبان من قبل جيش الاحتلال إلى جهة غير معلومة، والدفع بعشرات الأسرة من مركز الايواء للأونروا، للنزوح نحو الجنوب الذي لم يعد يتسع حتى لدبيب نملة، فكيف بما يزيد عن مليون ونصف.
عشنا أيام متجددة من الحصار والنار، كانت ستة أيام عصيبة ولكن أمضيناها بصبر وثبات. وبعد خمسة أيام عادت الغزوة من جديد، فمع ظهيرة يوم الاحد 28/1/2024، عاودت الدبابات والآليات تحت وابل من القصف العنيف جوا وبحرا وبراً، وقد وصل احيانا لسقوط ثلاث قذائف في الدقيقة الواحدة، لنعود مجدداً لحصار أطول مدة وأشد قسوة، لجأ الينا فيه حميدو وزوجته وطفلية بعد ان كان قد غادرتنا عائلتين كانت قد عاشت معنا الوجبة الاولى من الحصار.
في وجبة الحصار هذه، لم نغادر الشقة لأدوار سفلية، بل صعدنا للأعلى نراقب من الثقوب والفجوات التي احدثتها القذائف سحب الدخان والرصاص المتطاير، ننتظر الموت في كل لحظة، نتحرك بحذر مكتومي الأنفاس لقضاء وتلبية حاجاتنا الضرورية، ومع طول الفترة التي امتدت لأسبوعين بالتزامن مع عمليات القصف والقنص ونسف المنازل المجاورة، نفذت حاجاتنا من غذاء وماء وشرعنا بالبحث خلسة في الشقق التي حطم القصف أبوابها عن بقايا أي شيء نأكله أو بقايا زجاجات ماء وخاصة للأطفال. أمام حاجاتنا الضرورية للحياة، اضطررنا لسحب بقايا المياه من خزانات “سيفونات” دورات المياه في الشقق المفتوحة.
في اليوم الأخير لهذه الغمة، نفذت حفاظات الاطفال، فاجتهدت أم حسين لصناعة نموذج بديل بيديها. كان قرارنا واحد تقنين التحرك والحذر، ليس فقط تجنباً لقذيفة من الدبابات التي ربضت على بعد أمتار تزأر ذهاباً وايابا، بل كان كل خشيتنا من إجبارنا على النزوح كما اسلفت. وهكذا صبرنا رغم القسوة إلى ان زالت الغمة صباح يوم السبت العاشر من شباط، في الذكرى 42 لإعادة تأسيس حزب الشعب الفلسطيني الذي انتميت له، وعلى قيم الحرية والصمود والشجاعة والعدالة والمساواة فيه تربيت.
التقطنا بقايا أنفاسنا، قبل ان نسارع إلى تدبير أمورنا لجلب الماء وإزالة أكوام ما تراكم على أجسامنا وملابسنا، وبدأنا بتوفير اجتياحاتنا بانتظار وجبات أخرى محتملة من الحصار والقصف. استغلينا الوقت لنجري اتصالاتنا كالعادة، لنطمئن على أحبائنا وفقاً لما دأبنا عليها منذ بداية مسلسل الموت، من الأهل والأبناء والرفاق والأصدقاء، نطمئنهم نحن ما زلنا بخير. الجوع يفتك بالناس بعد أن تركوا يواجهون مصيرهم الذي يتلاعب فيه مجموعة من الأغرار الصغار.