د.عبدربه العنزي
أمد/ كل شىء تحول في حياتنا إلى نموذج معلب ..تقفز المعلبات فوق أرصفة الشوارع، والحواري الضيقة، ورفوف المطابخ، وتحت الأسرة، وحقائب المدرسة، وتحت ملابسنا، وشقوق الحيطان. وتفتح فمها لتبصق خراجها السياسي في وجوهنا.
تحولت غزة إلى جمهورية من المعلبات، تجوع فيها ولا تشبع، تداهمك أمراض تصيب كل وظائف أجهزتك الحيوية، وتضرب أشكالها وألوانها برمجتك العصبية والنفسية بهلوسات ووساس قهرية عجيبة.
في جمهورية المعلبات تكتشف أننا بلا جبهة داخلية، وتتأكد أن اللصوص يسرقون الفيتامينات والبروتينات وينتزعونها من أمعاء الجوعي والفقراء، وتنتكس كل شعارات الصمود وأنت تشاهد بأم عينيك الشياطين الصغار والكبار يفترشون الأرض ليبيعونك عونا جاء إليك ليذل انسانيتك، فيزيد هؤلاء الملاعين اللا مرئيين إذلالك وهوانك.
في جمهورية المعلبات، انكشف الدعم الواهم من الحلفاء والأشقاء والمناصرين ولم يعد يسترنا إلا دم الضحايا والشهداء، والخبز المغمس في قاع المعلبات ذات الجودة الرديئة، والطعم المر، والرائحة الباهتة.
في جمهورية المعلبات تنتفض آخر ما تبقى من حواسك الواعية وأنت تبحث عن وهم لسلطة دعست رقابنا عمرا طويلا، ولما لفحت وجوهنا هذه الشدة اختفى كل سلطانها، وظلت عصاها ويدها السارقة هي فقط ما تبقى لتضربنا على جلودنا .
في جمهورية المعلبات بانت نجاستنا، فمن أين ظهر كل هؤلاء اللصوص، الذين يسرقون جيوب الشهداء وبيوتهم، كيف تجرأت كل هذه الأيادي لتلوث أشرف اللحظات الربانية حين تصعد الأرواح إلى بارئها.
في جمهورية المعلبات تفنن الباعة في رسم أشكال فنية من المعلبات المسروقة فوق حواف الشوارع، وانتهى كل بائع في سعار معلن إلى تعذيب الناس بأسعار تزيد عن مستويات برلين وباريس وفينا.
في جمهورية المعلبات، رأينا الناس على دين ملوكهم، انكشفت فرية الشعب المتدين، والتجار الحجاج الأنجاس، والمحسنين المدعين، والجيران الطيبين كذبا، وظهر الشعب قبيحا كقيادته، سارقا مثلها، وانتهازيا مثلها، وكاذبا على ذات الضلالة.
في جمهورية المعلبات، هام النازحون على وجوههم، وتلطخت أقدامهم بمياه الصرف الصحي، وتدافع المتعبون ينهبون ما طالت أيديهم من عربات الإغاثة، واشترك جل القائمين على توزيع العطايا في السرقات ونهب المعونات، و”هبطت الثورة من برج العقل العلوي إلى ساحة المعدة، ومن نظافة الروح إلى حاجات الجسد ومطالب القوت، وهبطت تبعا لذلك من النخب المستنيرة الى السوقة الأوباش والقتلة والمشوهين والسياسيين الانذال والعواطف السيالة والتباهي”.
في جمهورية المعلبات، أفرط الدويري في تصوير البطولات، واعجازات غزة النووية، وفك طلاسم أساطير الانتصارات العسكرية، وأغفلت الجزيرة صوت الشعب في الخيام، والركام، والمقابر، والطوابير، ورطوبة الطين، والماء المالح، والطرقات السوداء، وعناقيد الغضب، وخشونة النزوح تحت الصقيع. وظلت شاشة الجزيرة تبحث للمواطن العربي عن انتصارات وأساطير من لحمنا المسحوق لتخفي خيبات العرب ونذالتهم وقبح ضمائرهم وضآلة رجولتهم.
في جمهورية المعلبات العظمى، الظل ليس الشجرة