أمد/ في المعارك الحاسمة يكاد غبار المعركة وقسوتها يغطي على كل أمل بالخروج منها بسلامة.. في تلك اللحظات تفترق الحسابات وتتشتت المشاعر وتزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر.. في تلك اللحظات القاسية تكون الكلمة أحد من السيف والهمسة أخطر من كتيبة مقاتلة.. هنا بالضبط تبرز الهمم العالية والعزائم المتينة والبأس الشديد.. هنا بالضبط تظهر معاني الرجولة والفداء و قيمة التضحيات، وهنا كذلك تكون فرصة التأويلات الجبانة والحسابات الدنيا والوهن وما ينشر في النفس.. ومن هنا كانت حملة القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأعظم ترسم في خريطة الوعي طريق الانتصار والظهور وتحذر من دواعي التخذيل والجبن والتفذلك بحجة المصلحة في حياة بعيدا عن صليل السيوف وقطع الرقاب..
فلسطين وطبيعة معركتها:
من جديد وفي كل مرة ينبغي أن نجدد التذكير ونعيده حول طبيعة معركة فلسطين وذلك لنعرف أن المعركة تقتضي أنواعا من التعاطي متفردة لا يحظى بها أي معركة أخرى في أي مكان، ففلسطين هي الغنيمة المعنوية والإستراتيجية الكبرى التي يعتقد النظام الدولي أنه حظي بها، وهي التي عمل بكل وسائله المادية لانتزاعها وأنشأ لذلك وسائل إعلام وأنظمة حكم وطوابير من اللائكيين وأقام قاعدة مسلحة بكل وسائل التفوق على أرضها بعملية تركيب احتاجت انفاق مذهل ومتابعة حثيثة.. وهو لم يفعل ذلك بدوافع عاطفية انما برؤية كلية شمولية للكون وكيفية السيطرة عليه فكان لابد من عملية السيطرة على فلسطين بتلك الطريقة وما تشمله العملية إقليميا ودوليا واقتضى ذلك إنشاء منظمات وقوانين و وشركات وبنوك واتفاقيات ومواثيق للهيمنة على بلاد العرب وكل ما فيها بتشويه دينها من خلال انحراف كبير عن تعليم الدين والثقافة وغرس افكار شيطانية ومادية لدى الاجيال واخطرها التخويف من قوى النظام الدولي والانقياد له ونزع القوة من الكتلة العربية وتحويلها الى كم مثقل بالتخلف والفقر والشلل.
ويكفي أن نلفت الانتباه الى واقع اللحظة وكيف يتعامل العرب حكاما وشعوبا مع قضية هي الاقدس في وجدانهم وتاريخهم ويكفي ان نشير الى حجم التضحيات الجسيمة وصراخ المصابين على شاشات التلفزيونات في بث مباشر.. ان الجبن والخوف والشلل والعجز هي سمات الموقف الشعبي والرسمي العربي وذلك بفعل ما اشرنا اليه سابقا.. و نكتشف في اللحظة نفسها أن اجزاء عربية فلتت من قيود الاختراق الثقافي والامني والسياسي الغربي استطاعت رغم قلة حيلتها وضعف قوتها أن ترد الصاع صاعين لبارجات امريكا وبريطان وان تغلق البحر الاحمر وبحر العرب امام السفن الاسرائيلية والامريكية والام المميز في هذه الحالة ان ليس فيها نخبة لائكية ولا احزاب اسلامية تقليدية ولا نظام حكم مرتبط بوعود الغرب بحمايته.
من هنا نجدد التأكيد أنها معركة كاشفة لطبيعة الانظمة العربية والاسلامية كما انها كاشفة لطبيعة النخب السياسية والفكرية في وطننا العربي حيث بلغ الاختراق المادي فيها الى أعلى مستوى وانسحب منها كل مفاعيل القيم الخاصة للأمة حتى في جاهليتها تلك القيم التي لولاها لما انتشر الاسلام ولما تحققت حضارته وانسانيته المنسابة في الامم والجهات البعيدة..
من هنا تبدو صعوبة المعركة وثقلها ومن هنا كذلك يبدو كم ستكون التضحيات كبيرة وعظيمة لكي يتم كسر المعادلة ومحاصرة منطق التفكير المادي والانهزامي.. وهنا كذلك يبدو كم هو النظام الدولي يشعر بالخطر والقلق من انهيار ركنه الركين لان هزيمته هنا تعني انهيار كيانه جملة في المنطقة الغنية والغنيمة وتعني كذلك ان المارد المقيد والمخدر ينتفض ويقف شامخا على أعز أرض واغناها مستشعرا اعظم تاريخ بشري يؤهله لقيادة العالم من جديد ولن يكون ذلك الا بسقوط النظام الاقتصادي الراسمالي المستحوذ على كل شيء.
طوفان الاقصى الاستثناء:
صحيح أن الشعب الفلسطيني لم يتوقف عن الكفاح والمقاومة في كل مراحل الاستيطان الصهيوني، قاتل الانجليز المستعمرين ثم قاتل الانجليز واليهود المستوطنين ثم قاتل المستوطنين عندما اشتد عودهم وتم تزويدهم بالرجال والمال والسلاح.. قاتل الفلسطينيون في أسوأ الظروف واقساها ولم يشترك النظام العربي الا في سنة 1948 ودخل ب15 ألف مقاتل من سبع دول عربية في مواجهة 150 ألف مقاتل صهيوني مدججين بالعتاد تحت قيادات عسكرية متمرسة جاءت من روسيا والدول الغربية.. لم تكن مهمة للجيوش العربية الا ترسيم التقسيم الذي صدر عن النظام الدولي ثم حماية حدود الهدنة وهي تراجع اضافي في مستوى الحدود.. قاوم الشعب الفلسطيني بكل ما يمكنه ذلك في مواجهة المشروع الغربي في اقامة الكيان الصهيوني ولكن في ظل أسوأ الظروف من انعدام السلاح وقلة الامكانات وفي نهاية الامر بمحاصرة الدول العربية المجاورة ومنعها أي محاولة فلسطينية خلال 20 سنة من أي فعل في مواجهة الكيان الصهيوني.. وذلك حتى انطلاق المقاومة الفلسطينية التي سمح لها ان تتحرك في ظل هزيمة النظام العربي في 1967 ولولا هزيمة النظام العربي لما سمح لها بالانطلاق او الاستمرار.. وبعد ذلك بفترة وجيزة بدأت المؤامرات عليها في الاردن ولبنان وسورية ولم تنته المؤامرات الا باخراجها من كل محيط فلسطين.. انطلقت الانتفاضة بالحجارة كانت معبرة عن ارادة شعب للاستقلال وبعدها انتفاضات
خل عليها ادوات من المواجهات الجزئية.
ولكن هذا الطوفان ليس مسبوقا انه مواجهة مسلحة لازالت مستمرة بعد اكثر من 135 يوما بكل عنفوان في معركة دفعت فيها امريكا وبريطانيا وايطاليا والمانيا وسواها بالسلاح والتجسس والاعلام بكل امكانياتها وفتحت القواعد الامريكية في العالم ابواب مخازنها لتشحن الطائرات والسفن بالذخائر والاسلحة لمواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني.
ان الذي حصل في ايام الحرب الطويلة يكشف مدى اصرار النظام الدولي في الدفاع عن وجود اسرائيل أي في سرقة فلسطين وكل اختلاف يمكن ان يظهر بينهم واسرائيل في الحرب هو فقط في عملية الاخراج فمنهم من يعتبر ان هذه هي اللحظة المناسبة لابادة شعب فلسطين وتشريده ومنهم من يرى ان الوقت غير مناسب دوليا.
ومن جهة أخرى استطاعت المقاومة الفلسطينية الحاق خسائر فادحة في جانب العدو أي في جانب القاعدة الغربية المركزية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في العالم.. هنا تبدو الصهيونية وهي احد ادوات النظام الدولي في مأزق حقيقي بعد أن حول الفلسطينيون حياتها الى جحيم خلال خمسة اشهر متتالية واستطاعوا ان يحدثوا شروخا في حال الامة المستكينة وجلبوا الى ساحة المواجهة اليمن ولبنان والعراق.. واربكوا المؤسسة الصهيونية على كل المستويات وكشفوا حقيقة طبيعة هذا الكيان انه مؤقت وانه رغم كل سلاحه وعتاده الا انه مسكون بالقلق الوجودي كما ان المقاومة الفلسطينية افقدت الكيان كل ما كان يتبجح به من قدرة على حماية انظمة المنطقة من عدو وهمي يتم صناعته اعلاميا..
هذه هي المعركة:
اذن فهي معركة استثناء لان طبيعة العدو استثناء ولان مكانة العدو في النظام الدولي استثناء.. هو عدو استثنائي لهذا فان المواجهة معه ينبغي ان تكون استثناء وهذا ما يعطي فلسطين قوة بريقها ومضاء فاعليتها في المشاعر والعقول سواء.
التضحيات حتما ستكون جسيمة تذكرنا بقصة جالوت وطالوت والفئة المؤمنة المختارة في مواجهة بطش جالوت وقومه وقوته وجبروته.. ان التضحيات هنا لها قيمة كبيرة ولكن الاهم منها الاستمرار في المواجهة فكل يوم يكشف ضعف العدو معمقا لانه يكشف عجزه عن القدرة في انهاء المعركة بحسب اهدافه ومهما قتل ودمر وافنى الا انه في اعماقه مهزوم روحيا وميدانيا فهو بعد 135 يوم لا زال كانه في اليوم الاول تخرج له المقاومة ببأس شديد في اماكن ما كان ليتوقعها توقع فيها الخسائر وتلحق بجنوده الهزائم التي لايمكنه اخفاءها.
نعم انها معركة قاسية ولابد ان تكون كذلك.. انها فلسطين وما تعنيه من مجد وسؤدد وعزة للامة وللانسانية وانها اسرائيل وما تعنيه للنظام الدولي من اختراق وركيزة استراتيجية وذروة الانتصار المعنوي والروحي.. هنا الملحمة هنا التضحيات الجسيمة ولكن هنا ايضا بدايات الطريق لاستفاقة الامة ولانتصارها التاريخي وازاحة الشياطين من طريقها..
عندما تتقدم طلائع الشعب للتصدي للعدو في مثل هذه الملحمة الاولى التاريخية الفاصلة الحاسمة تبرز قوانين المواجهة الصارمة فيصبح كل من ليس مع المقاومة عدوا. وكل من يكرر منطق العدو وروايته أداة للعدو ولن نكون معنيين بدراسة نفسية المنهزمين اولئك الذين يتثاقفون الذين جعلوا مرجعيتهم الحسابات المادية بحرصهم على الحياة بأي ثمن اولئك الذين يتماهون في الطابور الخامس و المشتغلين بالتشكيك وإثارة الشبهات واللطيمة والادعاء بالحرص على الناس والحياة الذليلة.. هؤلاء أخطر الأسلحة الموجهة لظهر المقاومة.
الشعب الفلسطيني يتعرض لعدوان سافر لم يتوقف هذا العدوان منذ مائة سنة وان كان يشتد احيانا ويتوقف احيانا وهو الان في أشد موجاته ولكن أيضا نحن في أشد مرحلة تعيشها مقاومتنا.. نحن في مرحلة تأسيسية للاستقلال والتحرير ولكن ايضا وهذا الاهم لانهضة الامة وتحررها من المردة الشياطين الذين يسومونها سوء العذاب ويحرمونها من شرف الجهاد والمقاومة دفاعا عن القدس والمقدسات ونصرة لاخوة العقيدة والتاريخ.