أسامة خليفة
أمد/ «في الحرب والسياسة، فلسطين والإقليم بعد «طوفان الأقصى» – حرب تشرين /أكتوبر 2023» كراس أصدره المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، يتناول مؤلفه الأستاذ فهد سليمان نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في مقدمة الكراس توصيف للحرب غير المتناظرة، ويعالج أربع موضوعات جوهرية في العلاقة بين الحروب والسياسة، وفق العناوين التالية:
1- طبيعة الحرب … في الجانب العسكري وانعكاساته المباشرة.
2- «طوفان الأقصى» حرب محلية أم إقليمية؟.
3- العملية السياسية … محطات في مسار الصراع.
4- في مواجهة المخطط الأصلي.
تعد الحرب الغير متناظرة شكلًا من أشكال الحرب غير النظامية تقع بين جيش نظامي من جهة، وحركة مقاومة من جهة أخرى، يحاول مقاتلو المقاومة في حرب غير المتكافئة استخدام استراتيجية حرب العصابات تعوّض عن النقص في عدد ونوعية القوات والعتاد، ولكن يتفوق المقاومون بإرادة قوية، وامتلاكهم الدافعية للاستمرار في الحرب، والاستعداد للمعاناة وتحمّل خسائر باهظة وخاصة في موقف الدفاع عن الذات، والتعرّض للاعتداء، وطغيان القوة واستبدادها، وسلبها الحقوق، وامتهان الكرامة الوطنية، من هنا العنصر البشري عنصر فاعل في الصراع، إذا أحسن استخدامه وإدارته، ويصبح التطوّر التكنولوجي والأسلحة الحديثة ليست كافية لتحقيق النصر.
أما في الحرب المتناظرة يمتلك الجيشان المتحاربان قوات عسكرية متشابهة من حيث تنوع صنوف الفرق البرية والبحرية والجوية وما يلحق بها من وحدات هندسية وإلكترونية، بغض النظر عن كفاءة الأداء في الميدان ومستوى التسليح ونوعيته.
يعود تاريخ المصطلح إلى مقالة للكاتب أندرو جاي ماك، بعنوان «لماذا تخسر الدول الكبرى حروباً صغيرة؟»، نشرها عام 1975، مشيراً إلى مثالها الأبرز في تلك المرحلة هزيمة الولايات المتحدة في حرب فيتنام الـ«غير متكافئة» بين الطرفين المتحاربين من حيث القوّة العسكرية والاقتصادية واستخدام الأسلحة المتطورة وقوة النيران.
في نهاية الحرب الباردة عاد الاهتمام مجدداً بالمصطلح، وبدأت أبحاث مركزة حول ما واجهته القوات العسكرية للولايات المتحدة، من مشكلات تتعلق بالحرب غير المتكافئة في أماكن عديدة في العالم جراء حرب العصابات في المناطق التي تتواجد فيها قوات احتلال أمريكية مثل أفغانستان والعراق، وفي مناطق أخرى حيث وصفت الإدارة الأمريكية المقاومة بالإرهاب، يثير المصطلح مفارقة صارخة في النزاع غير المتكافئ، فالمنطق يقول إن «القوة» تحدد الطرف المنتصر في النزاع، هذا في مفهوم الحروب التقليدية، حيث يفترض أن القوة تؤدي إلى النصر في الحروب، وتكون نتيجة الحرب قابلة للتنبؤ اعتماداً على عدد القوات المتحاربة أو نوعيّتها وأسلحتها المتطورة، قد يكون ذلك صحيحاً في حالات، إنما ليس كلها.
أما في الحروب غير التقليدية فمجرياتها وأحداثها وأسوبها قد تجعل الطرف الأقوى حسابياً في موقف ضعيف، باستخدام وسائل مثل الفر والكر أو تحديد زمان ومكان المعارك، ومباغتة الخصم حيث لا يتوقع، وعوامل أخرى تتيح للقوة الصغيرة التغلّب على قوة أكبر بكثير.
في الشرق الأوسط، ينطبق مصطلح الحرب غير المتناظرة على الحروب التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، مستهدفة إلحاق الدمار الواسع في البنية التحتية وبالسكان المدنيين لاسيما في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت بهدف إلحاق الهزيمة بالمقاومة بالتأثير على البيئة الحاضنة والجبهة الداخلية في محاولة لجعلها تتخلى عن مناصرة المقاومة، والامتناع عن إمدادها بعناصر القوة والدعم الضروريان لاستمرار المقاومة، وصولاً إلى علاقات عدائية بين المقاومة وجمهورها.
كما ينطبق مصطلح الحرب غير المتناظرة على الحروب التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني ومقاومته في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت شعار «دعوا الجيش ينتصر» و «كي وعي الشعب الفلسطيني»، لكي يتخلى عن مقاومته، بدءاً من هبة النفق أيلول/ سبتمبر 1996وانتهاء بما تعرض له قطاع غزة على امتداد 16 عاماً من عدوان أمطار الصيف/ الوهم المتبدد 25/6/2006 امتداداً لحروب عديدة حتى السهم الواقي / ثأر الأحرار في أيار 2023 ، تلك المعارك التي توجتها عملية طوفان الأقصى، وهذه الحرب الأخيرة تشرين الأول 2023 تقع أيضاً في نطاق مصطلح الحرب غير المتناظرة لكنها تتمايز عن سابقاتها بأسلوبها في المحطات الثلاث التي اجتازتها:
1- في محطة الإغارة الاستراتيجية في ساعاتها الأولى التي طالت العمق المعادي بعد الإطاحة بجدار غزة المنيع الذي كان يسوّق باعتباره عصياً على الاختراق، وصولاً إلى غلاف غزة بمستوطناته ومواقعه العسكرية الحاضنة لفرقة غزة المكلفة بالاعتداء دورياً على قطاع غزة إلى جانب مهماتها الدفاعية.
2- في محطة احتواء مفاعيل القصف التدميري للقطاع الذي طال البنيتين المدنية والعسكرية، والرد عليها بالمثل ودون انقطاع على امتداد 19 يوماً سبقت شروع العدو بالغزو البري للقطاع.
3- محطة الصمود الأسطوري للمجتمع الفلسطيني رغم تكبده خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات، والدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية والمرافق الحيوية في القطاع، تعبيراً عن إرادة وطنية لا تلين عند الشعب، وإرادة القتال حتى النصر المبين لدى الفدائيين، فبتنا أمام ظاهرة المقاتل المندمج في مجتمعه، المنصهر في قضية الوطن، المتفوق معنوياً وأخلاقياً على عدو هابط السوية معنوياً وأخلاقياً على الرغم من تفوقه التقني.
تجلت في المحطات الثلاث السابقة عبقرية العقل العسكري الفلسطيني وتفوقه في التنظيم والتخطيط والقيادة والسيطرة والأداء التكتيكي، كما تبدت في مهارة الميدان، وحسن استخدام الأسلحة المتاحة المضادة للدروع والتحصينات والأفراد، وكانت ذروة الابداع عندما تحولت شبكة الأنفاق بما هي بنية تحتية وظيفتها دفاعية (إيواء المقاتلين وتخديمهم ومراكز قيادة وسيطرة) تحولت إلى سلاح هجومي من الطراز الأول.
السؤال المطروح والمكرر لكن هذه المرة على الحالة الفلسطينية، هل تستطيع حركة التحرر الفلسطينية ذات القدرات العسكرية والاقتصادية المحدودة بالمقارنة مع العدو أن تحقق النصر الاستراتيجي في الحرب غير المتناظرة على الجيش الإسرائيلي المتطور والمدعوم أمريكياً؟. ومنه يأتي السؤال الآخر: لمن الكلمة الأخيرة في حرب غزة 2023 ؟. للمقاومة أم لدولة العدوان؟.
يبين تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، والفلسطيني الإسرائيلي، أننا أمام حالتين: حرب تتبعها تسوية سياسية مشروطة بالتزامات من الطرفين، وحرب يتبعها انسحاب إسرائيلي دون شروط، فحرب تشرين 73 أدت إلى تسوية سياسية قبلت فيها إسرائيل الانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة عام 67.
وحرب استنزاف الجيش الاسرائيلي على يد المقاومة اللبنانية أدى إلى انسحاب من جنوب لبنان عام 2000 دون قيد أو شرط، ودون أية مكاسب لتل أبيب، ودون أية التزامات من جانب لبنان.
كان من الممكن أن تقود حرب تشرين 73 إلى نتائج أفضل وأهم لو أحسنت إدارة التفاوض، والأمر نفسه ينطبق على القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي لم تستفد بالقدر المطلوب من نسبة القوى المواتية الناجمة عن انطلاق الانتفاضة الأولى 1987 واستمرارها لسنوات.
إن نسبة القوى المواتية وحدها لا تنتج حلولاً وطنية إلا بقدر ما تستند إلى إدارة سياسية متمكنة تستخلص منها أقصى ما يمكن من نتائج وتبني عليها ما يصب في خدمة انتصار أهداف النضال الوطني التحرري.
ثمة نسبة قوى مسقوفة بتسويات تنتقص بهذا القدر أو ذاك من الإنجاز الوطني، وثمة نسبة قوى تحقق انتصاراً كاملاً إذا أحسنت الإدارة السياسية استثمار مخزون ما تتيحه نسبة القوى من إمكانيات تترجم بإنجازات.
كان العامل الأهم في إدراك التسوية السياسية المتوازنة – ولا نقول العادلة- هو توافر نسبة قوى تفرض نفسها على العدو قبولاً بهذه التسوية.
تنتصر حركات التحرر الوطني أو الدول المحتلة أراضيها عندما يؤدي نضالها إلى تعاظم خسائر الدولة المحتلة قياساً بالمكاسب التي تجنيها، أو عندما تتوخى هذه الدولة مكسباً يخفف عنها أعباء الاحتلال، غير أن هذه القاعدة لا تنطبق تلقائياً وبنفس الشروط على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 أنها جزء من «أرض إسرائيل» التي يستهدفها المشروع الاستيطاني الصهيوني، صحيح أن العدو أخلى قطاع غزة إنما للخلاص من عبء 33% من أبناء الشعب الفلسطيني المتجذرين في أرض الوطن، وإسرائيل إذ غادرت القطاع فهو لم يغادرها وعاد إليها بزخم نضالي أشد تلمست تل أبيب مفاعيله وبلغ ذروته في الحرب الأخيرة فأحدث نقلة في تفكير الغاصب لجهة استعادة القطاع لمشروع الضم إنما في هذه المرة بأقل عدد ممكن من السكان بالإبادة الجماعية والتهجير.
تنبّهت إسرائيل كدولة مرهوبة الجانب بحكم امتلاكها جيشاً قوياً أو «جيش لا يقهر» إلى الحرب غير المتماثلة، بعد خوضها معارك فشلت في تحقيق أهدافها سواء في لبنان أو فلسطين، تنبهت إلى الحاجة إلى التعديل في تنظيم جيشها بما ينسجم مع الحرب غير المتماثلة، بهدف التقليل من الخسائر وتنفيذ المهمات المطلوبة بسرعة. فقامت بمناورات لتمرين قواتها النظامية والاحتياطية بدءاً بالقيادة العامة وانتهاء بالوحدات العملياتية، حيث حاكت التمارين التعامل مع التحديات لكافة الساحات وعلى عدد من الساحات بشكل متزامن. وهيأت لحرب ومعارك غير تقليدية تختلف كلياً عن الحروب السابقة يتحضر له الجيش الإسرائيلي بشكل جدي. من مناورات برية، لسيناريوهات افتراضية قتال الشوارع في أحياء مأهولة، القتال الليلي، لكنها لم تتوقع القتال من المسافة الصفرية التي أوقعت فيها خسائر كبيرة في آلياتها وأفرادها، وربما تحمل الحرب على المستوى الإقليمي الكثير من المفاجآت للعدو.
عندما تتوفر في الحروب المتناظرة الإدارة التكتيكية المتمكنة في إطار الاستراتيجية المناسبة تكون الغلبة –في العادة- لمن يملك قوة نيران ويتفوق في إدارتها، أما في الحروب غير المتناظرة فتكون الغلبة للمقاومة القادرة على مواصلة استنزاف قدرات عدوها، وهذا ما يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تحققه بتضافر عدد من العوامل، أهمها يقوم على مواصلة المقاومة المحمية بصمود مجتمعها، وكذا الأمر بالنسبة لدور جبهات الدعم والإسناد الشقيقة، وتعاظم زخم حركات التضامن الشعبي في كل مكان، هذا ما يمكن البناء عليه كي ينتصر الشعب الفلسطيني في معركة شاقة ما زالت تفتقد إلى مرجعية وطنية عليا تضم الكل الفلسطيني، يشكل غيابها حتى الآن ثغرة بينة في صموده، ما يقتضي المعالجة بإجراء حوار وطني شامل يبلور السياسة الوطنية الواجب اتباعها للانتقال بالمواجهة الوطنية من مستوى الاستنزاف النسبي للعدو إلى مستوى الاستنزاف الاستراتيجي الذي ينشئ المعادلة الطاردة للاحتلال واستعادة الحقوق الوطنية.