مؤيد عفانة
أمد/ تعاني السلطة الوطنية الفلسطينية من أزمة مالية متجدّدة، بلغت أشُدّها إثر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وقرصنة إسرائيل المتصاعدة لإيرادات المقاصّة، وانكماش الاقتصاد الفلسطيني، الأمر الذي انعكس على مجمل الحياة عامّة، وبشكلٍ حاد على قدرة السلطة الفلسطينية الوفاء بالتزاماتها المختلفة، وعلى رأسها رواتب موظفي القطاع العام، وفي هذا المقال، سيتم استعراض أربع حقائق أساسية عن الأزمة الماليّة للسلطة الوطنية الفلسطينية:
الحقيقة الأولى: الأزمة الماليّة ليست وليدة اللحظة، ولا طارئة، رغم حدتّها الحالية، ولا تتحمل مسؤوليتها الحكومة الحالية لوحدها، بل هي إرث ممتد، وأزمة بنيويّة هيكليّة، نشأت أسبابها منذ سنوات طويلة، وتراكمت افرازاتها وإشكالياتها، وطفت على السطح بعض ملامحها خلال السنوات السابقة، وتم العمل على محاولات علاجية مؤقتة لها، وبإجراءات “شكلية” أكثر منها “جوهرية”، وبدون علاج شمولي لأسبابها، حيث لم تتم معالجة جذور الأزمة، وإنما تم تقليم بعض الأغصان النافرة، كما هو حال معظم حالات العلاج في ثقافتنا الإدارية، حتى بلغت الأزمة “تردد العتبة” في نهايات العام 2021، وأضحت العلاجات المؤقتة لا تُجدي نفعاً، واتسع الرتق على الراتق، مما اضطر الحكومة الفلسطينية إلى اعتماد صرف نسبة من رواتب موظفي القطاع العام منذ ذاك الحين، بعد استنفاذ كافة الطرق الفنية لعلاج الأزمة.
الحقيقة الثانية: توجد شرايين رئيسة تعاني من نزيف متدفق في جسد الموازنة العامة، لن تنتهي الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية بشكل كامل، دون وقف ذلك النزيف متعدد الأبعاد، والذي يتمثل في نزيف “صافي الإقراض”، ونزيف “التحويلات الطبية”، ونزيف “الرواتب وأشباه الرواتب”، الأمر الذي يحتاج الى خطة اصلاح ثورية، تقوم على أسس قانونية، وبما يكفل العدالة الاجتماعية للفئات المجتمعية كافّة، وأيضا على المساءلة للجهات المُسببة لهذا النزيف، فعلى سبيل المثال: لا يُعقل أن تتحمّل الخزينة العامة ديون هيئات محلية بدل أثمان الكهرباء والماء المشتراة من إسرائيل، في حين يدفعها المواطن مسبقاً، بسبب ضعف الحوكمة في تلك الهيئات، ولا يُعقل استفادة فئات مجتمعية من الموارد العامة، على حساب فئات أخرى، ولا يمكن الاستمرار في شراء الخدمات الصحية من خارج مرافق وزارة الصحة، دون توطين الخدمة الصحية.
الحقيقة الثالثة: الأزمة المالية مستمرة، وحتى لو حصلت السلطة الفلسطينية على كافة إيرادات المقاصّة التي تحتجزها اسرائيل، فستحدث انفراجة في الأـزمة المالية، ولكن لن تنتهي بشكل كامل، حيث توجد إشكالية في هيكل النفقات المرتفع، والمطرّد مع الزمن، خاصّةً وأن النفقات الجارية تكافئ اجمالي الإيرادات المحلية والايرادات عبر المقاصّة، دون رصيد كافٍ للنفقات التطويرية والرأسمالية، ولسداد الديون، وغيرها من الالتزامات، مع التراجع الحاد في الدعم الخارجي (الأجنبي والعربي)، كما أن الرواتب وأشباه الرواتب، والتي تشكّل حصة الأسد من اجمالي النفقات، مرتبطة بعلاقة ارتباطية موجبة مع الزمن، تزداد سنوياً، لأسباب عدّة، منها ما هو قانوني مثل العلاوات السنوية والترقيات، وغلاء المعيشة – وإن كان غير منفذ من سنوات عدّة-، ومنها ما هو فني، بسبب تخمة المناصب العليا بالموظفين، ومنها ما هو متعلق بضغوط مراكز القوى، مثل العلاوات الخاصة ببعض الفئات الوظيفية تبعاً لضغوط النقابات والاتحادات، مما خلق واقعاً مشوّهاً لمفهوم العدالة في الوظيفة العامة، بحاجة إلى تصويب من خلال تشريع متكامل.
الحقيقة الرابعة: وهي أهم الحقائق، وتتمثل بالاحتلال الإسرائيلي، كونه عنصر حاكم ورئيس في خلق أزمة مالية دائمة للسلطة الفلسطينية، وفي حرمان الشعب الفلسطيني ككل، من حقوقه الاقتصادية وموارده الطبيعية، إن كان الأمر على مستوى قرصنة ايرادات المقاصّة تحت حجج عدّة، أو سرقة ونهب الموارد الاقتصادية للشعب الفلسطيني بشكل عام، مثل الأراضي والمياه، وسيطرته الأمنية والمدنية على حوالي 61% من أراضي الضفة الغربية بكل مواردها، تبعاً لتصنيفات اتفاقية أوسلو، وتحكمه المطلق بالمعابر والحدود وحركة التجارة، والبيانات الإحصائية تؤكد ذلك، حيث بلغت إيرادات المقاصة حوالي (68%) من اجمالي الإيرادات الضريبية وغير الضريبية للسلطة الفلسطينية، كما أنّ مؤشرات الميزان التجاري تشير الى ارتفاع الاعتمادية على الواردات إمّا من إسرائيل أو من دول العالم المختلفة عبر إسرائيل، حيث بلغ عجز الميزان التجاري مطلع العام 2023، حوالي (9.3) مليار دولار.
فقرصنة إسرائيل للمقاصّة وإيراداتها، ترتفع عاماً بعد عام، بل شهراً بعد شهر، وان لم تجد إسرائيل سبب للخصم والقرصنة، فستخلق 100 سبب للخصم والقرصنة في ظل المعادلات القائمة، وتحكمها بإيرادات المقاصّة، مما يُشير إلى أن أموال المقاصة سيف مسلّط على رقاب الفلسطينيين، تسلّه اسرائيل متى وكيفما شاءت، مما يعمّق ويوسّع من مسببات الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، ويزيد من أمدها، ما لم يتم انفكاك اقتصادي فعلي عن دولة الاحتلال.