سري سمّور
أمد/ حرب طويلة وقاسية ولا يلوح في الأفق بريق أمل، يستند إلى معطيات واقعية، بتوقفها في المدى المنظور، ما لم تطرأ تطورات (خارج الصندوق).
فمنذ بضعة أشهر وقطاع غزة يتعرض لعملية إبادة جماعية بكل ما للمصطلح من من معان ودلالات، وما تنقله الشاشات من مشاهد على مدار الساعة لا يحتاج إلى شرح.
تحليلات متفائلة لم تلامس الأحداث
أغلب المتابعين والمحللين انتابهم نوع من التفاؤل بعدم وصول هذه الحرب إلى حيث وصلت الآن، وما زالوا يقدمون رؤى تحليلية –لا تخلو من رغبوية- متفائلة إلى النقطة التي ستصلها من حيث الزمان والمكان وحجم القتل والدمار.
فمثلا:قيل بأن الحرب البرية مستبعدة، فكان هناك حرب برية بالتزامن مع القصف الجوي العنيف، وقيل بأن الهدنة التي تزامنت مع تبادل لمجموعة من الأسرى أواخر تشرين ثاني(نوفمبر 2023) سيتم تجديدها مرة تلو مرة وصولا إلى حالة نهاية الحرب ووقف إطلاق النار ولو دون إعلان، ولكن انتهت الهدنة واستؤنفت الحرب، وقيل بأن الحرب لن تستمر حتى سنة 2024 وإذا استمرت فحدها الأقصى منتصف أو نهاية كانون ثاني(يناير) فاستمرت، وقيل بأن الحرب لن تمتد إلى خانيونس فامتدت، والآن وأنا أخط هذه الكلمات هناك من يتأمل أو يراهن أو يبني نظرية تحليلية بأنه من المحال تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية في (رفح) وهكذا دواليك.
مجزرة رفح ستقع إلا إذا!
أثبتت إسرائيل ممثلة بجيشها أنها لا تتعامل مع الفلسطينيين وفق أية مرجعية أخلاقية أو التزام بقوانين وأعراف دولية، وعليه من السذاجة التحليلية توقع إحجام إسرائيل عن تنفيذ هجوم على رفح مخافة سقوط ضحايا مدنيين خاصة من النازحين إلى تلك المنطقة، ووقوع مجازر في صفوفهم.
فمن وصف هؤلاء بأنهم(حيوانات بشرية) لن يتورع عن ارتكاب مجازر في رفح تفوق أو تعادل ما ارتكب في مناطق شمال القطاع.
أما المراهنة على موقف أمريكي كابح لإسرائيل، فلا يقل سذاجة، لأن الأمريكان أعطوا الضوء الأخضر فعليا للهجوم على رفح؛ ومن قتل المدنيين في ملجأ العامرية(بغداد) في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عقود لن يكون رحيما بأطفال فلسطين.
ما يمكن أن يمنع مجزرة في رفح فقط موقف عربي يتجاوز ما كان من تواطؤ أو خذلان أو تردد أو عجز طوال الفترة الماضية، وبالذات من مصر، أو وقوع حدث دراماتيكي يقلب المعادلة تماما.
حرب وجودية
كل هذا يقودنا إلى نقطة مهمة في رؤيتنا إلى ما يجري؛ فقد تجاهلنا تكرار نتنياهو وغيره اعتبار هذه الحرب حربا وجودية بالنسبة للكيان العبري، واعتبرنا الكلام ضمن تنافسه مع خصومه أو ضمن الشعبوية التي اجتاحت إسرائيل مؤخرا، وفي أفضل الحالات رأينا أنه مبالغة وانفعال وأن الأحداث ستري نتنياهو وغيره أن هذه الحرب هي حلقة من صراع طويل ليس إلا.
وقد كانت هناك كثير من القراءات بأن طوفان الأقصى هو معركة كبيرة وقاسية ولكنها لن تحدث تغيرا مفصليا في محاور الصراع، بل ستكون مقدمة لمرحلة سياسية، تجتر ما كان قبلها، وكان من تمظهرات هذه القراءة العودة إلى الحديث عن حل الدولتين وغير ذلك.
ولكن إسرائيل ومن قبلها الولايات المتحدة تنظر إلى هذه الحرب بأنها (نكون أو لا نكون) وأنه يجب تحقيق الأهداف المعلنة مهما كانت الخسائر(وهي باهظة بشريا وماديا) أو طال زمن الحرب(الأطول منذ تأسيس الكيان).
ولكن عربيا وفلسطينيا لم تبنى استراتيجية تنظر إلى جدية هذه الفكرة في العقل الإسرائيلي، وفي الرؤية الأميركية، وهذا خطأ ينبغي تصويبه بسرعة.
أهداف أميركية وإسرائيلية ضحيتها أطفال غزة
إسرائيل تريد تهجير أهل غزة أو قتلهم جميعا، وهذا واضح ولا لبس فيه؛ فهي تدرك –أو تعتقد-أن الضربة التي تلقتها في السابع من أكتوبر هدمت استراتيجية الردع التي تعتنقها بكل مؤسساتها، وأن استعادة الردع مستحيلة دون تغيير ديموغرافي في غزة والضفة وعموم فلسطين، وأن مخططاتها المتعلقة بالقدس والمسجد الأقصى يمكن أن تمرر فقط بعد هزيمة ساحقة يشعر بها كل عربي وكل فلسطيني، فلا يتحرك حتى لو هدم الأقصى وبني الهيكل!
أما الولايات المتحدة التي تعلن في كل يوم تقريبا أنها ضد وقف كامل لإطلاق النار فهي تريد استثمار هذه الأحداث المتفجرة لإعادة ترتيب المنطقة من جديد؛ بتحجيم إيران وإخضاعها، وإجبار العرب على التطبيع الشامل غير المشروط مع إسرائيل، وبناء منظومة ثقافية وتعليمية تسلخ العرب عن عقيدتهم الإسلامية وتاريخهم ورؤيتهم لوجود إسرائيل، عبر محو فكرة مقاومة الغزاة من أذهان الأجيال القادمة.
بين أحلام واشنطن وهوس إسرائيل هناك ضحايا هم أطفال غزة الذين يُقتلون مع عائلاتهم على مدار الساعة، فيما نعيش وهم عودة القوم(في تل أبيب أو واشنطن) إلى رشدهم، وهم سادرون في غيّهم!
لنجعل نظرتنا كنظرتهم
لا مناص أمام هذا الواقع المريع المؤلم، أن نحاول التفكير مثلهم، أو نبني تفكيرنا على اعتقاد جازم أنهم ينظرون إلى هذه الحرب نظرة حاسمة نهائية، ولا يعتبرونها مجرد جولة من جولات الصراع الطويل.
لذا من غير المعقول ولا المقبول أن يظل بعضنا ينتظر نصرا إسرائيليا في غزة، كي يخرج ماشيا على أشلاء الأطفال ليقول بأنه كان على حق في تصوره ورؤيته، فهذا لن يكون، ليس فقط لأن غزة لن تهزم، بل لأن القوم لن يتركوه وشأنه، وليس من المنطق شراء الوهم وتسويق وترويج الحديث عن حل الدولتين في خضم فكر إسرائيلي وأمريكي واضح في عنصريته، وليس من حسن السياسة استمرار الاعتقاد بأن أمريكا تملك الأرض ومن عليها وتستطيع أن تفعل ما يحلو لها وأنه من الغباء التصدي لها، وأنه يجب السكوت على ما تقوم به هي وإسرائيل.
وبالتأكيد لا يجوز شرعا ولا عرفا ولا وفق أي منطلق إنساني بقاء أهل غزة تحت جحيم آلة القتل والتدمير والتجويع الإسرائيلية، فيما تمنع حكومات يفترض أنها تمثل مئات ملايين العرب والمسلمين، حملات التظاهر والتضامن، بل تقمعها وتجرّمها بدعوى (المصلحة الوطنية العليا) وتعجز عن إدخال شربة ماء أو لقمة غذاء إلى أهل غزة، بل وتسمح لأبواقها الإعلامية بشتم الفلسطينيين واتهامهم بتهم كاذبة.
كل هذا نتألم ونحزن ونحن طيلة الوقت نراه، وسنعتبر أنه حالة مرضية سببها عدم الوعي بطبيعة الحرب وخطط الأعداء، فهل سنرى موقفا مغايرا مشرّفا، خاصة أننا على أبواب شهر رمضان؟نسأل الله ذلك.