محمد المحسن
أمد/ كيف يمكن النظر لظاهرة الومضة الشعرية..هل هي حالة تمثل قصر نفس الشاعر أم أنها انعكاس لضيق نفس المتلقي،أم أنها شكل تجديدي يمثل استجابة طبيعية لروح العصر حول الومضة الشعرية؟
في البداية أؤكد أننا نعيشُ حركة تسارع شعري في الشكل والمضمون،فلم نُقْصِ قصيدة التفعيلة،بل كتبناها وبرعنا فيها،لإيماننا بأنّ الشعر العربي قادرٌ على مواكبة العصر والإبداع في جماليات اللغة.
ولكن..مع هذه التحوّلات الفنّية والفكرية نجد أنفسنا أمام شكل شعريّ جديد وهو (الومضة)، والذي يعتمد على اللحظة الخاطفة التي تمرُّ في مخيّلة الشاعر،لتصبح نصّاً شعريّاً بألفاظ قليلة، وأنا أرى بأنّها وسيلة من وسائل التجديد الشعري،أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول أن تجاري العصر الحديث،فالومضة تحيلنا إلى الإشراق والتوّهج والدهشة والشفافية والغموض والتكثيف والاختزال،ولعلّها تتوافق مع المقولة المشهورة “البلاغة الإيجاز”والومضة ليست بجديدة،بل لها تاريخ منذ السبعينات من القرن العشرين،فنحن لسنا ببعيدين عن أحمد مطر ومظفر النواب وسيف الرحمي وغيرهم من الشعراء الذين حوّلوا النص الشعري إلى إيحاءات عميقة،ورمزية واقتصدوا في إيقاع الومضة وصورها ولغتها وفكرتها،وكأنّها أشبه ما تكون ببرق خاطف يتسم بالعفوية والبساطة.والمُنظّرون لهذا الشكل الجديد وضعوا لها مسميّات كالتوقيعة أو قصيدة قصيرة جداً..
ويقول في هذا المجال يوسف الخال* : ” نحن نجدّد الشّعر لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد،نحن نجدّد لأنّ الحياة بدأت تتجدّد فينا أو قل تجدّدنا..فنجاحنا مؤكّد ولا حاجة لنا بأيّ صراع مع القديم-القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها والوزن الخليلي الرّتيب مات بفعل تشابك حياتنا وتغيّر سيرها وكما أبدع الشّاعر الجاهليّ شكله الشّعريّ للتّعبير عن حياته،علينا نحن كذلك أن نبدع شكلنا وجنسنا الشعري للتّعبير عن حياتنا التي تختلف عن حياته “
في الوقتِ نفسِه أتذكر مقولات كانت تحكم على جودة شعر الشاعر من خلال بيت،فقالوا أمدح بيت وأهجى بيت وأغزل بيت..وهكذا،ونسمع عن رباعيات الخيّام،وأعتقد أنّ شعرَنا العربي فيه من المرونة ما يجعله قادراً على التغيير ومواكبة أحداث العصر،وهذا ما قرأناه ودرسناه في الموشّحات مثلاً،وأنا أتفق مع مَنْ ذهب أنّ اختزال قصيدة الومضة يكسبها ميزة الصورة الشعرية (الرمز،الانزياح،الرؤيا)،وأنا أميل إلى كتابة هذا النوع من الشعر إذا توافق مع عناصر وجماليات الشعر الفصيح،وكونُ قصيدة الومضة معتمدة على الإيحاء فهي قابلة للتأويل،لأنّها في حقيقتها غير مباشرة،وهذا ما نستنتجه من الملمح الدلالي العام لمفردة الومضة / النّور واللمعان والكشف والخفاء والسرعة والإيجاز.
وأخيراً،وفي رأيي أرى أنّ مشكلة هذا الشكل الجديد في وضع مصطلح خاصّ له،كما إنّي أدعو النقّاد (وأزعم أني واحد منهم) إلى الوقوف على بدايات ظهور الومضة في العصر الحديث، وهل هي امتداد للشعر العربي القديم، أم هي امتداد لشعر الهايكو الياباني وهل تأثرت بالشعر الغربي وخصوصاً الإنجليزي؟”
إذن يمكن القول بأنّ انخراط الشّاعرة التونسية د-زهيرة بن عيشاوية في جنس الومضة الشعرية هو مواكبة للحداثة في الشعر وهو اختيار يبتعد عن الأنساق المألوفة…
لقد تابعت ما تكتبه الشاعرة التونسية د زهيرة بن عيشاوية في ومضاتها الشعرية فوجدت الكلمة تتحرك في بنية السياق حركة حيّة تمنحه تموجات دلالية،إذ تتوسع حيوية النص لتجعل تلك الحركة انبثاقاً وجدانياً قائماً على العدول والتكثيف الدلالي,فهي تختزل الكلام بقدر ما تستطيع ايصال قصديتها إلى المتلقي بصدق وجداني وفني
اعتمدت الشاعرة في رسم قصائدها على ذات النبضة في إطلاق المعنى المراد لتشكيل هندسة القصيدة ببلاغة ولغة وتكثيف وإشارات معنوية وحسية،يستطيع من خلالها القارئ أن يعيد قراءة القصائد مرات متتالية،نظرا لعلو الذوق في رسم المعاني والمباني في كلماتها،فلا تعقيد ولا التواء ولا مفردات ذات غلظة وغرابة،إنما تنسيق واختلاجات توحي بعدة معانٍ وظلال أحادية اللون.
وقد احتوت هذه اللوحات الإبداعية على ومضات شعورية تتدفق بلحن القصيدة وإيقاعها،ذلك اللحن مترع بالدفقة الشعورية المصحوبة بالتجربة الشعرية وصدق العاطفة والمشاعر.
الومصة الأولى :
كجبل الرصاص قلبي
يرتدي قبعة غيابك..
وينتظر شروقك
لتهطل نبضاته غزيرة
كأمطار الشتاء..
الومضة الثانية:
كل ليلة توقد نار ذاكرتي
تحرك ملعقة أحلامي
وتطعم أفواه شوقي وجبات غيابك..
لا يمكن أن تكون ميتا أبدا !
الومضة الثالثة:
كان يحاول أن يقول لنا شيئا
وهو يرسل الموجة تلو الأخرى
ويصرخ بزبده في وجه الريح
نحن لا نفهم الرسائل المشفرة بالزبد..
كنا نحتاج فقط إلى مترجم بارع
لكن السماء يومها كانت غائبة..
عفوا،غائمة
وفي قراءة متواضعة منّي في ومضات الشاعرة زهيرة بن عيشاوية وقفتُ على عمق حسّها الوجداني والإنساني..وقد اتّسمت كلّ ومضاتها (وهذا الرأي يخصني) بتوصيف مجازي استعاري وترميزي جيّد..معجمها اللغوي اتّسم برهافة حسّها أيضا وعمق بلاغة،وقد اتّسم هذه الومضات بكلّ تجلياتها الإبداعية ب :
1- جماليّة الأسلوب وعمق المضمون
2- دقّة في اختيار الألفاظ البديعة القويّة ذات العمق الدلالي..
3- اعتماد التّكثيف والاقتصاد في العبارة واللامبشارتية..
هذا النصوص وامضة بوعي شعري عميق وبحالة تأملية عميقة وقد صيغت بأعلى قدرات الاختزال والتكثيف وجاءت خاتمتها مذهلة تحتكم العمق والادهاش وتحيل على دلالات وتأويلات شتى لمتلقيها..
إنها تجربة شعرية غاية فى العمق وآية فى الجمال،صاغتها شاعرتنا فى بعض الكلمات،ولكن بين هذه الكلمات آلاف من الكلمات والمعانى مسكوتاً عنها،وعلى المتلقى أن يتأمل ويبحث ويحلّل حتى يصلَ إلى ذروة المتعة الشعرية والتأملية..تجربة عميقة وقوية تم رصدها-كما أسلفت-فى كلمات قليلة تحمل كل معانى وعطاءات التجربة بين سطورها،فالتجربة هنا كالومضة التى تلقى بأضوائها على من حولها ولمساحات بعيدة حسب ثقافة وفكر كل متلق.
إن الإنسجام بين محوري الإختيار والتأليف،يكشف شعرية خطاب التوقيعة.وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدية،والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة. فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل،الرغبة والخوف..فالومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره.فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.
والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرد دون وجود الآخرين.وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر،وقابضاً عليه.ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات د-زهيرة بن عيشاوية أنها تركّز على رد فعل قارئها،لتصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه،محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية “الومضة” التي تظهر أدق تشعبات الفكر.
لغة الشاعرة سهلة موجزة بديعة،في جوهرها كثافة المعاني بألفاظ جد قليلة وهذا ما يسمى في البلاغة العربية بالإيجاز البلاغي.
أما التركيب اللغوي فهو متلائم مع مستويات العلاقة الدلالية،فالإشارات اللفظية يتضح بريقها من خلال البناء الفني المحكم لقصيدة الومضة،المدهشة المسيطرة على روح الدلالة بمستويات تناسب المطلع،وتتزامن في آن اللحظة مع النهاية وهذا مما يكتب لهذا اللون التأثير البليغ، فالقارئ لهذه القصائد لن يشعر بالملل،بل سيجد المتعة الحقيقية من خلال التذوق المسترسل بين ثناياها..
الاستعمالات البيانية كالاستعارات والكنايات والمجاز والتقديم والتأخير لأغراض بلاغية،شمل أغلب القصائد (أزعم أني اطلعت على جلها) وهذا مما أضْفى عليها الجمال البياني،وجعلها كأندر لوحة فنية تتسم بالفسيفساء ذات الألوان المتدرجة التي تشد العين وتبهج النفس.
تقول الشاعرة :
الشاعر الذي كتب مطلعها..
رماها تحت باب زنزانة منسية
وترك المفتاح عالقا في صدإ القلب العنيد..
هي،القصيدة التي لم تكتمل..
على سبيل الخاتمة :
وأنهي القول فأقول أن هذه الومضات الشعرية الخلابة للشاعرة التونسية الفذة د-زهيرة بن عيشاوية،ارتسمت بالحس العميق ولم تنفصل الشاعرة عن جذورها وعن الطبيعة وقوانينها ونواميسها حيث جاءت مؤثثة بالمطر..بالجبل..بالغيم..بالغيب..بالموج..بالطيور والزهور..بالريح والزبد…
وقد أبانت فيها عن اقتدار وحرفية بأسلوبها المتميز مما حقق التناغم بينها وبين الومضات الوجدانية العميقة التي أيقظت في المتلقي إشراقات العشق والوَجد والشوق والرغبة في الانعتاق من كل المكبلات والعوائق..
تشجيعي وتقديري للشاعرة التونسية القديرة د-زهيرة بن عيشاوية وأرجو لها المزيد من التألق والنجاح نحو الأفضل في انتظار أعمال جديدة لها،ريثما يختمر عشب كلامها..