بكر أبو بكر
أمد/ عند أصحاب العقل الرشيد أو الحكيم دومًا ما يُعاب على أصحاب الأفكار الجامدة والعقل المغلق عدم قدرتهم على استيعاب الآخر، وقد يسبقها أصلًا عدم الاعتراف به، بل ونفيه من بيئة هذا العقل بعمليات متتالية دؤوبة لإقصائه ونبذه! (هو في منزلَة عندهم بين الخصم والعدو، أو بالتعبيرات الدينية بين المنافق والكافر، أوبالوطنية بين العميل والعدو)
ينغمس أصحاب الأيديولوجيات المغلقة بأفكارهم وأقوالهم الى درجة تنزيهها –وأحيانًا كثيرة تقديسها كمرجعية وحيدة-ثم يقوم الأنصار أو الأتباع بتنزيه حامليها بذواتهم/شخوصهم، ومسلكهم وأفعالهم مهما كانت! من أطر أوشخصيات (مجتمعية، تنظيمية، دينية، فكرية، سياسية…) ما يشكل ظاهرة خطيرة تجعل في مرحلة متقدمة حتى الخطأ الواضح أو الخطيئة الوطنية، أو النظرة القاصرة أوالخطة الفاشلة هي منزّهة! فقط لمجرد أنها جاءت من التنظيم أو الحركة أو الشخص المعني بذاته.
في المنظمات خاصة السياسية المنفتحة والمرحابة التي تتبع مثلت الاعتراف، والتفهم والتقبل، ثم التجاور هي التنظيمات أو المؤسسات الأكثر ذكاء وجاذبية وتأثيرًا من تلك التي تقوم بتخليد صاحب النموذج أو الفكرة أوالأيديولوجية وترفض المراجعة أوالنقد بل وتقوم بتبرير الشائن من أفعاله لمجرد أنه من ذات الفصيل أوالجماعة المغلقة، والذي يجعل من الانصياع المطلق فيها هو الهدف ما يعني إغلاق إعمال العقل وإتاحته وفتحه للتلقي والاستقبال فقط.
إن الإيمان والالتزام والاحترام للفكرة لا يعني بتاتًا تنزيهها، وافتراض أنها الصواب أو الحق المطلق ولا يعني عدم امكانية التشكيك بها وطلب مراجعتها ونقدها، بل ونقضها أحيانًا بدخول أفكار جديدة أو فهم مختلف، والا فإن منطق الإيمان يتحول الى استسلام كامل وكأن المستسلِم عندما ينغلق على ذاته، فيتيح أويؤجر عقله للمنزّه فقط يدخل نفسه طواعية في زمرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (البقرة18)”، ويخرج من بيئة أصحاب التفكر.
أن لذوي القوالب المصبوبة والعقل المغلق وجامدي الفكرسعيٌ دائم لقتل الرأي المعارض، وعدم تقبله الا مشمولًا بإعلان الولاء المطلق للشخص المعني من جهة أولذات الفكرة أو حاضنتها التنظيمية.
بعيدًا عن “ذات” العقيدة الدينية فإن الفكر –أي فكر-سواء أكان مرتبطًا بذات العقيدة، أو بدونها فأنه يمثل نظرة أو “تفسيرًا” لها يدخل فيها معطى الشخصية وثقافتها وطريقة نظرها، وعليه يعدّ منتوجًا إنسانيًا بحتًا. لذا هو قابل للصح والخطأ وهو قابل للنقاش وللنقد والرفض كما أن صاحب المنتوج الفكري مهما علا شأنه يجب أن يخضع لميزان العقل (والسماء رفعها ووضع الميزان-7 الرحمن- وحيث الميزان بأحد تفاسيره هنا هو العقل) والتفكّر والتدقيق والحوار والجدل العلمي.
إن العقل الراشد والحكيم وصاحب الشخصية المرِنة والتي تبتغي التأثير بالآخرين وجذبهم لا تستغني عن الخوض في الأفكار الأخرى، وحقيقة الفعل المرتبط بالقول (القدوة)، والقراءات والحوارت للشخصيات المتعددة والثقافات المتباينة، وذوي المذاهب العقلية التي لا يمثلها فيخرج من منطقة راحته الفكرية ليصطدم بما هو في منطقة التشكك أو الخوف والتي مهما كانت يجب الخوض فيها وصولًا الى التعلم والتفكّر والتطوير الذاتي.
يقول المحدّث ابن عيينة: فانظر وفكِّر فيما تمرُّ به/إنَّ الأريبَ المفكر الفَطِنُ
إن الايمان بشمولية الفكرة (وقديسيها من الزعماء) وتغطيتها لكل الجوانب بحيث لا يمكن فتح صندوقها مدخلٌ للتعصب كما هو مدخل للتطرف والانفصال عن المجتمع، وبتواصله ينشيء صاحب الفكرة الخالدة أوالتنظيم المنزّه فضاءه المحدد والمنغلق عليه (قوقعته)، لتصبح جوانبه حائط صدّ لأي شخص آخر مهما كان رأيه يعانق الحق، فهو خارجي مهما كان مسماهُ.
إن الشخصية المؤمنة بعقيدتها، والمؤمنة بفكرها لا تعني من زاوية الفكرة أنها تحصّنها ولا تقبل غيرها، ولا تعني إسقاط المرونة بل تعدّ المرونة التي تعني الرحابة وتقبل الرأي الآخر سلاحًا لتطوير أو تحسين أو تطوير الفكرة بل وإمكانية تغييرها ما يجعل من التأقلم ضمن المجتمع وتحقيق التوازن الذاتي والانفتاح الرحب سنة وهدفًأ.