أمد/ يعتبر الشعر منذ نشأته وتطوره عبر التاريخ حالة فريدة تستفيد من اللغة العربية من خلال تحريك معانيها والاستفادة من مجالها الإبداعي والروحي والفني،وإذا كان الشعراء الكبار من أمثال امرئ القيس وأبي الطيب المتنبي والنابغة الذبياني،وشعراء معاصرين أمثال أبي القاسم الشابي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم عرفوا كيف تستخدم فنون اللغة في الشعر سواء من خلال محاكاة الإبداع الجمالي أو بناء الصور الفنية وتوظيفها في روح القصيدة،أو من خلال تفرّد اللغة وجمالها في بناء القصيدة وتحويرها،فإن أكبر ملهم للشعراء في إيصال القصيدة إلى مرحلة التصوير الفني والجمالي هو قدرة الشاعر ومهارته في استخدام اللغة وخياله الإبداعي وفنون التعبير عن حالته وسبكه للأبيات.
هذا الحديث ما جعلني أندهش وأتوقف ملياً أكرر الأبيات الشعرية لقصيدة الشاعرة التونسية المتميزة أ-زينب العياري (الأطلال الباهتة ) فقد قرأتها مرات ومرات ولم أفق من قراءتي في كل مرة من تفرّدها،فقد أدهشتني بجمال لغتها وحسن التصوير وسلاسة الفن عندما يتعاطى مع روح اللغة المتزنة والمعبرة عن المعنى الذي تداعت له خيالات الشاعرة وروعة بنائها للغة،ودرجة صياغتها للمعاني التي عبرت عنها تعبيراً رائعاً صبغ جمال المعنى بالكثير من الصور الفنية.
وقد اكّدت لنا إن الشعرية قيمة تفاعلية مؤثرة في خلق المؤثرات الجمالية التي تباغت القارئ بمستوى المكتشفات النصية التي تحقق غايتها وقيمتها الإبداعية.
وهنا،قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن أ-زينب العياري شاعرة مترعة بجلال الكلمة،نبل السؤال وجمال الحيرة،لذا فلا غرو أن تتحول السيرة الشعرية لعاشقة الشعر إلى هيام وولع،بل صلاة للشاعرة المتصوفة في رحاب حضرة الشعر المقدس،والجميل،والذي يمثل لديها كل شيء،وقبل أي شيء،وبعد أي شيء.إنه الشعر ولا شيء سواه..
الشعر الذي يمثل اتجاهها،وقيمها،وعالمها،وطبائعها الجمالية الحالمة،والشعر الذي يصوح مع مفرداتها كالمجذوب في حضرة الذّكر/ الشعر/ النص/ القصيدة/ السرد الشعري/ السيرة الشعرية،وغير ذلك،فنراها تحلّق حوله،وتطوف معه،وتسافر عبر الغيوم الماطرة،لتعرج إلى معارج الكون،عبر سماوات الخيال والواقع،وعبر مركبة الشعر الوحيدة التي صنعتها بمهارة واقتدار وبريق خلاب لا تخطئ العين نوره وإشعاعه..
تقول شاعرتنا الفذة أ-زينب العياري :
الأطلال الباهتة
أيتها الأطلال الباهتة
كلوحة تحاور ألواني
لا تتكاثفي وتفزعي مواعيدي
أيتها الأسطورة الخالدة
لا تُشَرّدي وداعة الصدق
وتبللي أطراف الليل
المهلل لفتح الملفات
وصيتك لم يتجازها الزمن
ولم تتخطى جوف أطواري
لا تطلقي رياح بابك المشرع
يعري سعي الشوارع..
لقد جف رحيق الحب من على الأعتاب
يا أيتها الأطلال الواقفة على روابي أشجاني
تعانقيني كصمتي الناشف ..
تتعالى أصواتك مع أوجاعي
لقد رقصت الأقداح الفارغة
على سطح الديار الحافية
وقطع الحلوى لم تعد تتسكع على الأفواه
وانطوت الصفحة خلفها لهاث الظلام
والألم مازال يذوب كالسكر في الأكواب
كم كنت غريبا عند حضور مرآتي
تنكرني عيني وتتمنى انصرافي
انظر حولي تتآكل كل التنبؤات..
ياروحا كانت تسكر قلبي
منك الزاد ومني جوع أحضاني
كيف مرّرتي هذا الحزن الضاحك في عقلي
بين عقارب الساعة المعطلة
التي كانت تكتك في رأسي
(زينب عياري)
إنَّ الصورة الشعرية تقوم على اللغة والإيقاع والوزن،والقافية،والمُوسيقى،والإيحاء،والرمزٍ، فضلا على الأحاسيس. ويُعد الخيال هو الجسر الذي يَعبِّرُ من خلاله الشاعر عنها،مُنطلقاً من الواقع الذي سُرعان ما يبتعد عنه الشاعر ليثير في المُتلقي التشويق والمُتعة والتفكير بعيدًا عن اللغة التقليدية المعيارية،إلى لغة مُغايرة بتراكيب جديدة وغير مألوفة تنبه وعي المُتلقي وتؤدي الرسالة التي يهدف إليها الشاعر بصورة إمتاعية تفاعلية وحركية مُعبّرة.
فالإبداع في العمل الشعري يتأتى من “قدرة الشاعر على هتك أستار اللغة وتفتيق أكمامها،قدر امتلاكه لطاقاتها والحياة،فإنه يمنحها من الشخصية والكيان ما يجعلها قادرة على الاستثارة والتحريك،وهذا-في تقديري-أروع هدف وأسمى غاية للشعر..
أن القراءة فن يخضع لموهبة الفرد ولتجربته وثقافته،وعليه لا يمكن قراءة قصيدة الشاعرة التونسية المبدعة أ-زينب العياري إلا من خلال تلمُّس لغتها الشّعريّة،وما تمتلكه أو توظِّفه فيها من أبعاد وإيحاءات ودلالات،وأساليب بلاغية،ووسائل جماليّة،وأخرى فنّيّة كالرمزية والانزياح وما إلى ذلك.أما تركيز الشّاعرة في القصيدة وفي شعرها،كما يبدو،فعلى الكلمة الّتي تعتمدها ركنًا أساسيّا في صناعة النص الشّعريّ.
بالنّسبة لأسلوب القصيدة فإنّه يمكن تصنيفه كالسّهل الممتنع،الّذي يمتاز بسهولة الألفاظ ووضوح المفردات وسلاستها،وتفنن في المعاني،وتلاعب بالألفاظ،أسلوب متجانس شكلًا ومضمونًا.ذلك بأن مثل تلك الأغراض الشّعريّة الّتي لامستها القصيدة لا تتحمَّل المفردات الفخمة،أو التراكيب الصّعبة،مع التّأكيد على أنه أسلوب درامي سردي بامتياز.الأمر الّذي جعل تلك البنية الدّراميّة تغني النص على نحو مثير ومؤثِّر.وقد جاءت ملامسة النص لسردية النّثر واضحة للعيان،ففي المفردات والعبارات الكثير من لغة النّثر،أو تقترب من لغة النّثر في أقل تقدير.
يقول أبو حيان التوحيدي “أحسن الكلام ما رقَّ لفظه،ولطف معناه،وتلألأ رونقه،وقامت صورته بين نظم كأنّه نثر،ونثر كأنّه نظم”
وحريّ بكلّ من يقرأ هذه القصيدة ( الأطلال الباهتة ) أن يعانقَ فيها جماليات اللغة في ألفاظها وتراكيبها،وبدائع الصور في مجازاتها وانثيالاتها،وأسرار المعاني في توهّجها وانهمارها.
على سبيل الخاتمة :
تتمثل شعرية-زينب-في اللغة ومؤولاتها الثرية،التي تجعل القارئ يسبح في فضاءاتها مزهواً بدهشتها الإسنادية،وبكارة ما تبثه من دلالات على المستوى الفني والجمالي.
ولا أجد- هنا-أجمل من قول “كارل ساندبرج”: “الشعر يوميات يكتبها كائن بحري يعيش على البر حالماً بالطيران.”
وأرى شاعرتنا أ-زينب العياري جاوزت ذلك أيضاً،فهي شاعرة،وأم،وعاشقة،ومبدعة،تعيش بين ضلوع وحنايا القلب،تكتب بريشة الحب سفر الإنسانية الخالد لكتاب الشعرية الأبديّ الممتد بين سماوات الكون،وسهول الأرض الممتدة بالاخضرار والحب والشعر أيضاً.