د. عقل صلاح
أمد/ لقد جاءت الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 1996 كنتاج لاتفاقي أوسلو سنة 1993 والاتفاق المرحلي سنة 1995. فقد نص البند الثالث من اتفاق إعلان المبادئ على أنه كي يتمكن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من حكم نفسه وفقاً لمبادئ ديمقراطية تجرى انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس تحت إشراف ومراقبة دولية. وقد تم عقد الانتخابات الفلسطينية للرئاسة الفلسطينية بناء على اتفاقية أوسلو، مرتين منذ قيام السلطة، الأولى التي فاز بها الرئيس ياسر عرفات ونافسته فيها سميحة خليل، واستمر الرئيس عرفات في حكم السلطة حتى استشهاده سنة 2004، ومن ثم جرت الانتخابات الثانية سنة 2005 وفاز بها الرئيس محمود عباس ونافسه بها كل من المرشح مصطفى البرغوثي ومرشح الجبهة الديمقراطية تيسير خالد ومرشح حزب الشعب بسام الصالحي والمرشح المستقل عبد الحليم الأشقر، ومازال عباس هو الرئيس.
لقد اختلفت دوافع الأطراف من إجراء الانتخابات، فالولايات المتحدة اقترحت إجراء الانتخابات من أجل دعم الاتفاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أما إسرائيل فاعتبرت الانتخابات بمثابة استفتاء على السلام، ورغبتها بإعطاء شرعية للعملية السلمية، وتقوية معسكر السلام في الشارع الفلسطيني، واحتواء المعارضة. بينما هدفت السلطة من خلال إجراء الانتخابات إلى تحقيق الشرعية الدستورية التي افتقدتها، والتخفيف من مقولة أن السلطة تستمد شرعيتها من الاحتلال. وهذا ما أكده صائب عريقات آنذاك، حيث بين أن أهمية الانتخابات تكمن في ثلاثة نقاط رئيسية وهي “أن إعادة الانتشار يتمثل بشقيه الآني واللاحق وهذا يخلق ظروفًا جديدة على الأرض، وأن الانتخابات تعني الشرعية المحلية والدولية للسلطة الفلسطينية، وأن الانتخابات بحد ذاتها تعني نقل عملية السلام من أيدي القادة إلى الشعب”.
ويذكر أن الرئيس عباس أحد مهندسي اتفاق أوسلو التي عقدت الآمال عليه في إقامة دولة فلسطينية، لكن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة وممارسات الاحتلال قوضت شرعية السلطة شيئًا فشيئًا، وأصبح الفلسطينيون ينظرون إلى السلطة على أنها فاسدة وغير ديمقراطية ومغيبة. وهنا يبرز سؤال موجه للمسترئسين ماذا قدمت أمريكا وإسرائيل والعرب للرئيس عباس على مدار حكمه المستمر؟!.
ففي الانتخابات الثانية التي فازت بها حركة حماس تنصلت جميع الأطراف مما سبق، وعملت جميعها على رفض نتائج الانتخابات كل بطريقته الخاصة ووصل الحد للحصار المطبق وعدم التعامل مع الحكومة العاشرة، وهذا يدلل على أن وجود إسرائيل هو المعيق للديمقراطية ولصناديق الاقتراع، فإذا كانت النتيجة لصالح إسرائيل فمرحب بها، وإذا كانت النتيجة الديمقراطية تتعارض مع مصالح إسرائيل فحصارها ومحاربتها هو سيد الموقف، كما حصل مع الحكومة العاشرة. فادعاء الديمقراطية ادعاء زائف لجميع الأطراف، وفي المقابل الانتخابات الإسرائيلية مطلوب من العالم والفلسطينيين القبول بها حتى لو أخرجت عتاة المتطرفين؛ فهذا هو الكيل بمكيالين ويثبت أن العالم وبالتحديد أمريكا لا يعرفون غير لغة القوة.
تأسيسًا على ذلك، إن انشغال العالم بالبحث عن رئيس فلسطيني في ظل حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ خمسة أشهر، يؤكد أن العالم لا يهمه أمر الشعب الفلسطيني، وإنما ترتيب الأرواق وتأمين مصالح إسرائيل واستمرار حفظ أمنها، وعدم خروج المنطقة عن السيطرة الإسرائيلية، ويريدون رئيسًا فلسطينيًا على المقاسات الإسرائيلية؛ يعني موظف كبير في مكتب الإدارة المدنية الإسرائيلية وبمباركة أمريكية وعربية.
وجدير بالذكر، أن جميع الدول ومنها العربية تعاملت مع حكومة اليمين المتطرفة بقيادة المجرم بنيامين نتنياهو والمتطرف بتسلئيل سموتريش والبلطجي إيتمار بن غفير، وعلى الرغم من أنهم يحتلون أرض شعب آخر ويبيدونه، فالعالم لم يتدخل في نتائج الانتخابات الإسرائيلية ولم يحاصروا حكومة اليمين بل قام العرب بالتطبيع معها، وأمريكيا تدعمها بكل قوة. وفي المقابل، كيف تعاملوا مع نتائج الانتخابات الفلسطينية الثانية وتشكيل حركة حماس للحكومة، لقد عانى الشعب ومازال يعاني الحصار والحروب في الوقت الذي يدعم العالم حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، أي معادلات وأي معايير هذه؛ والأنكى من ذلك أن الجميع يتحدث عن الديمقراطية.
ففي علم السياسية، تتم عملية التغيير في الدولة من خلال طريقتين، الأولى (من أعلى إلى أسفل) والثانية (من أسفل إلى أعلى)، فغالبية دول العالم تقوم بتطبيق الطريقة الثانية من خلال صناديق الاقتراع؛ أما في فلسطين الجميع يريد إسقاط رئيس في البراشوت من أعلى إلى أسفل، أي تطبيق الطريقة الأولى، والتي تنفذ في العادة من خلال الانقلابات العسكرية، وأكثر من ذلك يبدعون في استحداث وسائل وطرق لكي يحضروا لنا رئيسًا على بوز دبابة إسرائيلية؛ فنحن شعب قادر على اختيار رئيسه ومن يمثله، بلا تدخل من العالم المنافق، وحتى لو كان التدخل عربي فهو مرفوض. فالشعب الفلسطيني هو من يختار من يقوده، فالشعب الذي قدم عشرات الآلاف من الشهداء، وقاد معركة الطوفان، وشق طريق النضال الشاق من عمق الأرض، وابتدع القتال من نقطة الصفر، قادر على أسهل طريقة للنضال، وهي التوجه إلى صناديق الاقتراع. فلن يقبل الشعب بأي شخصية خارج المبدأ المتعارف عليه في الشريعة القانونية والإنسانية لحكم البشر. فلمن يسعى ويتدخل من أجل حماية إسرائيل، فليعلم أن وجود إسرائيل هو المشكلة، والحل يكمن بإنهاء الاحتلال، وهذه أكبر مساعدة يقدموها للشعب الفلسطيني.
لقد طالب كل من مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الرئيس عباس القيام بإصلاحات لمكافحة الفساد، وتمكين المجتمع المدني، وتنازل عباس عن بعض سيطرته على السلطة، وتعيين نائب له، وتسليم الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء وضم شخصيات جديدة في القيادة، وكأن المشكلة في تغيير المسؤولين وليست في الاحتلال، وعدم تسليمه بالحقوق الفلسطينية.
وفي هذا الخصوص، تفضل أمريكا وإسرائيل تعيين “ممثل مقبول عندهم” نائبًا ومن ثم خليفة لعباس في المستقبل، وكأن الانتخابات لا تليق بنا. ففي الحالة الفلسطينية، فمن تقترحه أمريكا وإسرائيل وحتى العرب بعد موقفهم المتفرج من حرب الإبادة على القطاع، لا يمكن للشعب انتخابه. في الوقت الذي فشلت به أمريكا بحل مشكلة أموال الضرائب التي جمدتها إسرائيل في أعقاب السابع من أكتوبر، تتحدث عن إقامة الدولة، ولكن هنا يبرز السؤال من لا يستطيع إجبار وزير المالية الإسرائيلية سموتريتش على تحويل أموال المقاصة، هل يستطيع إنهاء الاحتلال ومن ثم إقامة دولة فلسطينية؟.
فالعالم يريد تعيين رئيس فلسطيني يكون وكيلًا حصريًا لحماية أمن إسرائيل، ويكون ستارة يحكم من خلفها المنسق؛ مرة ثانية شعبنا لن يقبل في (س أو ص) فالشعب الفلسطيني سيتوجه إلى التوافق الوطني بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لحين إجراء الانتخابات خلال أقل من عام. ففي النهاية لا داعي للتنقيب الأمريكي والإسرائيلي والعربي عن رئيس فلسطيني بطبعة إسرائيلية، لن تجدونه حتى لو نقبتم مدى الحياة وحتى لو وجدتموه سيلفظه الشعب، وسيستبدله بالطريقة الثورية. ومن البديهي القول أن الإدارة الأمريكية لا تتعلم من دروس الماضي الخاصة بها؛ وهنا يبرز السؤال الكبير من الذي عين كل من شاه إيران، وحامد كرزاي في أفغانستان وكيف كان مصيرهم؟.
أما بخصوص الدول العربية المنشغلة في الإعداد لتعين رئيس فلسطيني على المقاس الأمريكي الإسرائيلي نقول لهم أن يهتموا في شؤونهم الداخلية وحماية دولهم وثروات بلادهم وحماية شعوبهم من التطبيع مع إسرائيل التي أصبحت بحاجة إلى من يحميها، ولولا أمريكا منذ بداية السابع من أكتوبر التي أوقفتها على أقدامها لانهارت بشكل مدوي، فلكل من يريد مساعدة الشعب الفلسطيني عليه عدم التدخل في الشأن السياسي بما أن الشعب الفلسطيني لم ولن يتدخل في شؤون أي دولة عربية؛ فأنتم من أوقف حتى الدعم الاقتصادي للسلطة، ولم تتجرؤوا على اتخاذ موقف لإدخال كرتونة حليب أو علبة دواء لأطفال غزة بجميع أعضاء جامعتكم، تريدون حماية أمن إسرائيل وعدم تكرار عملية الطوفان من خلال إحضار رئيس يلبس العباءة العربية ويركب على دبابة الميركافا، هذه الدبابة حولتها المقاومة إلى قطعة من الخردة ، فالشعب سوف يلفظ جميع المقاربات التي لا تعطيه حقوقه على جميع المستويات، ابتداء من الديمقراطية الشعبية الحقيقية، وانتهاء في إقامة الدولة وعاصمتها القدس ذات السيادة، فمطلوب منكم أقل الإيمان مساعدة الشعب الفلسطيني بعدم مساعدة إسرائيل على قتل الفلسطينيين واعتقال صناديق الاقتراع لاختيار من يمثل الشعب بالطريقة الشرعية المتعارف عليها.
أما على المستوى الفلسطيني، فهناك للأسف الشديد الكثير من القادة والمسترئسين الذين من الممكن أن يتعاطوا مع أمريكا مقابل توليهم الكرسي، على الرغم من معرفتهم المسبقة أن هذا الكرسي بظل رؤية وشروط أمريكا ووجود الاحتلال، بلا أرجل متينة بل يضربها السوس الأمريكي والإسرائيلي والعربي والمصالح الخاصة، فلم تقدم للشعب الفلسطيني هذه الكرسي بشخوصها المتنافسين غير مزيد من الاستيطان والتهجير والشركات الخاصة التي تعتمد على جيوب الناس لتوصيلهم إلى الهجرة الطوعية، ومن يرفض الهجرة تحت الضغوط والممارسات الاحتلالية، سيضطر للهجرة لعدم وجود سياسات إصلاحية وحوافز لدعم صمود المواطنين، ستشكل عوامل دافعة للهجرة وبالتحديد لفئة الشباب لحسم الصراع الديمغرافي. وبناء عليه أي مسؤول فلسطيني يقبل أن يأتي من خلف ستارة أمريكة وإسرائيلية وبتخريجة عربية يعتبر نائبًا لمنسق الإدارة المدنية، وليس رئيسًا فلسطينيًا. لذلك نعود إلى الحل الوحيد هو الإجماع الفلسطيني بظل وجود حركتي حماس والجهاد وبسقف زمني محدد للتحضير إلى انتخابات عامة، يختار الشعب الفلسطيني رئيسه ومن يمثله في المجلس الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية والتشريعي والحكومة، غير ذلك سيكون مصيره الفشل المحتم.
*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.