محمد المحسن
أمد/ (الشعر يستطيع كل شيء..حتى عندما لا يستطيع شيئاً..)
«كانتْ لهُ أرضٌ وزيتونةٌ/وكَرمَةٌ وساحةُ دار/وعندما أوْفتْ بهِ سفائنُ العُمُرِ إلى شواطئ السَّكينة/وخطَّ قبرهُ على ذرى التِّلال/انطلقتْ كتائبُ التتار/تذروهُ عن أرضهِ الحزينة/لكنه،خلف سياجِ الشوكِ والصبَّارِ/ظلَّ واقفًا بلا مَلالْ/يرفضُ أن يموتَ قبلَ الثَّار/يا حلمَ يومِ الثَّار»(الشاعر المصري صلاح عبد الصبور)
تعددت صور فلسطين في الشعر،فهي الأرض المغتصبة،والزمن المفقود،واللغة الدامية، والرموز والدلالات المتعددة،والشخصية الضائعة الغريبة،وعدوها غول يلتهم الأرض والزمن واللغة والشخصية،وناسها صامدون،مرابطون،يعانون تحت احتلال استيطاني إلغائي يجتث الجذور،ويقطع الرقاب ويحرق الضرع والزرع..
وإذن؟
القضية الفلسطينيةإذا،قضية دامية ومؤلمة تسكن قلب كل شاعر عربي خاصة اولئك الذين يرون في شعرهم الملتزم وكلمتهم الأمينة الصادقة خدمة لقضايا أمتهم فيسخّرون الحرف كشكل من أشكال الثقافة المقاومة.
وفلسطين في وجدان الشعراء الملتزمين هي القضية المركزية في التاريخ العربي الإسلامي الحديث والمعاصر،ومن منظور أدبي،فإنها قضية فقدان الشخصية العربية الإسلامية لوطنها. والشعر الفلسطيني واكب أحداث القضية الفلسطينية وكتب تاريخها وكشف أعدائها وبين وقائعها،وأكثر شعراء العرب كتبوا شعرا يصور نكبات القضية الفلسطينية ويدعو لتحريرها ويحيي بطولات شعبها ويتتبع أحداث تاريخها.
واليوم..
لا يملك الشاعر في اللحظات التي نعيشها غير الكلمات التي تولد من رحم الألم والغضب،ألم موت الأبرياء دون ذنب وغضب من سلوك وحشي لعدو غادر..
و منذ النكبة إلى هذه اللحظة السوداء في تاريخ الأمة العربية،لم تفارق فلسطين المتخيل الشعري العربي،بل ظل جرحها نازفا في تجارب الشعراء على اختلاف أشكال الكتابة التي اتخذوها دربا ينير عتمات أحلامهم،وعلى تبايُن خلفياتهم المعرفية والأيديولوجية.تحضُرُ بجغرافيتها الجريحة،وبأسماء مُدنها وحواريها،وبرموزها التاريخية وأسماء أعلامها وشهدائها..فهي غصن الزيتون المقصوف،والحمامة النازفةُ أمام بنادق الاحتلال،والأم الثكلى التي تحضن الأرضَ كي تُقبِّلَ ابنها الشهيد الذي عانقتْهُ أرض الجليلِ..
وحين تتمترس القصيدة خلف خط الدفاع الأول عن الأرض والعرض،أستند إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز من أن الفنَّ في جوهره مقاومة.فالشعر-في تقديري-من الفنون التي رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه،وما يزال،وخاصة في لحظات الاضطهاد والاحتلال وسلبِ الحريات،حيث يحضر الشعر إلى جانبِ السلاحِ لتحقيق فعل المقاومة،هذا الفعل الذي يستلزمُ الكلمةَ كما يستلزمُ الرصاصة.
وإذا كان عمر الرصاصة محكوما بسرعة وصولِها إلى الهدف،فإن الكلمة/القصيدة تستمرُّ انطلاقتُها دون حدود زمنية،تؤثر وتُخلد،وتواصل تذكير الغاصبِ بعُقمِه الإنسانيّ،وتذكير المُضطَهَدِ بِعُمْقِه الإنسانيّ..
الآن..وهنا..يُواصلُ لوركا،وناظم حكمت غناءهما ومقاومتهما،جنبا إلى جنب مع درويش وسميح القاسم وممدوح عدوان ومظفر النواب..وغيرهم.
من هذا المنطلق،تشكل القصيدة أفقا للمقاومة والتحرر والوقوف في وجه الظلم،فالقضية الفلسطينية قبل أن نكون قضية سياسية،هي قضية أخلاقية،مما يجعلها تمثل للشعراء أفقا لاستحضار القيم الإنسانية النبيلة والخالدة.
وهنا أيضا،أستحضر أغنية “شدوا بعضهم أهل فلسطين”*لتلك المرأة العجوز،فبكلمات بسيطة ومؤثرة،رمز مقاومة،بل وشفاء لجراح النفس والبدن،يحقن فيه ما يحتاجه من صمود.
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول أن الكلمة في القصيدة تشبه نصل السيف في ميدان المعركة،غير أنها تخاطب النفس البشرية،وتزرع فيها الحماس والشعور بالصمود النفسي أمام ما نراه يوميا في الحرب على غزة من مجازر دمرت كل الأعراف الإنسانية،مقابل ما تسطره المقاومة بمداد من فخر.
على هذا الأساس،يعد الشعر ضرورة إنسانية نحتاجها في كل اللحظات،ذلك أن كل الناس شعراء بعواطفهم وفطرتهم،يجدون في الكلمة ما يحرك فيهم كل ذلك،ويدفعهم إلى جانب الشعراء المبدعين إلى التشبث أكثر بإنسانيتهم التي يحاول العالم أن ينسيهم فيها.
على سبيل الخاتمة :
الشاعر العربي الملتزم يكتب بحب عن الحب،وبلهفة عن الضياع،وبحلم عن العودة،يكتب القضية شعرا وإنسانا،فالقصيدة لا تنتهج منهجا،ولا تستطيع توثيقا ولا تروم تحقيقا دقيقا.. الشاعر العربي الملتزم ككل شاعر في كل زمان ومكان يلبس القضية فتنة الحب واللغة لتكون حاضرة وخالدة،ومتجلية كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية،أدبيا وفكريا..
إنه لا يكتبها إلا بآليات الشعر الخاصة به كالصورة الجارحة والإحساس المتلبس بها وليس بنية إظهارها كقضية قومية-وهي كذلك فعلا-بل لإظهارها بصورة إنسانية للعالم الذي يصم أذنيه، ويعمي عينيه،ويغلق قلبه وروحه عن كل ذلك الدم،وكل ذلك القتل والتشريد والتهجير،يكتبها في القصيدة كي لا ينسى العالم بذاكرته التي يتسع ثقبها يوما بعد يوم،يكتبها للأجيال القادمة بصورة أكثر واقعية وأكثر صدقا وتماسّا مع الإنسان والدم،ولكن بفنيّة عالية تليق بالشعر وبجمالية مدهشة تشبهه تمنحها الانتشار والخلود بعيدا عن الجاهزية الفنية،والكلام المتاح الذي يفقد تأثيره بعد كل انتفاضة وحادثة ويصبح ميتا وغير قابل حتى للتدوير أدبيا وفكريا،لأن الشعر هو صيغة الخلود لكل شيء يمسه،ولكل قضية يطرقها من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل..والشعر-أولا وأخيرا-يستطيع كل شيء..حتى عندما لا يستطيع شيئاً..
القضية الفلسطينية مرتبطة بتاريخنا،بإنسياتنا،بديننا،بكرامتنا العربية،وأي شكل من أشكال التنصل منها يعني التنازل عن مكون رئيس في كل ذلك،وصرف النظر عما تشهده فلسطين من أحداث يسبب خللا في إنسانيتنا بل يؤكد وجود تخشب وتكلس في مفاصل هذه الإنسانية..
ختاما،أؤكد أن التهجير والقتل وكافة أشكال الاعتداء على فلسطين لا يمكن أن يحقق شعرا صافيا،فالقصيدة كائن حي لا يحيا بلا ماء،ماء الحياة الذي يضخه الإحساس بمعزل عن جنون المحيط الحسي،بيد أن هذا لا يعني بالضرورة صمت الشعراء أو صيامهم عن الصراخ الشعري،رغم أن المجازر التي تشهدها غزة أعلى من الشعري بكثير،والفعل الإنساني بروحه الإلهية من قبل الفلسطينيين أكثر دقة وأبلغ تعبيرا،وأما فلسطين فإنها تظل محركا ودافعا للكتابة دائما وشكلا من أشكال المقاومة التي يدافع بها الشعراء عن كرامتهم الإنسانية وحقهم في الكلام والحرية.
ختاما أقول : ما من شك في أن القضية الفلسطينية هي إحدى أكثر القضايا التي تناولها الشعراء العرب في نصوصهم،ورسّخوها مفهومًا ومضمونًا ورمزًا ودلالة،وبأبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية،لأسباب عديدة،أهمها: أنها كانت وما زات وستظلُّ قضية قومية وطنية عربية،يُعدُّها شعراء العرب الملتزمون -على اختلاف مشاربهم ومنابتهم –قضيتهم المقدسة العادلة، فيطوِّعون كلماتهم وإبداعاتهم لخدمتها،بوصف الكلمة أحد أشكال الثقافة المقاومة، فضلًا عن كون القضية مصدر إلهام لهم،بحيث تنجب شعرًا وتنتج أدبًا.
وبطبيعة الحال،فإن مهمة الشاعر الأولى هي محاكاة الواقع وتصويره بآلته الإبداعية،لأن الشعر منذ نشأته لم يكن بمعزل عن الواقع التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي،ما يدفع الشاعر إلى جعله آلة رصد ترصد الأحداث التي يعيشها ويواكبها، فيتفاعل معها ويبيّن وقائعها في نصه الشعري.
****
*«شدوا بعضكم يا أهل فلسطين شدوا بعضكم..ما ودّعتكم رحلت فلسطين ما ودّعتكم».. بصوتها الحنون والمليء بالشجن تشدو السيدة العجوز صاحبة الـ85 عامًا هذه الكلمات لتقوية عزيمة الفلسطينيين،وتصبح هذه أغنية الأشهر على منصات التواصل الاجتماعي،بعدما تداولها الملايين حول العالم عقب الأحداث التي اندلعت شرارتها يوم 7 أكتوبر 2023.