وجدان مروان شتيوي
أمد/ كانت رغبة عارمة تدفعني للكتابة رغم تبعثر أحاسيسي وشرودها، وتقطّع حبل أفكاري باستمرار، كانفصال مبكّر للمشيمة يقطع الأكسجين والغذاء عن الجنين، وهذا ما يحدث الآن مع جنين أفكاري، ولكن لا بدّ لي أن أكسر جمود القلم، وأحرّك سيل النبض، وأبعث الروح في الكلمات من جديد. لا بدّ أن يخرج زبَد الكلمات لينتج خلاصة شهدها.
حالة تصيب أي كاتب، حصار يغزو كلماته، وطوق بينها وبين إحساسه، سدّ يقام بين كلماته وصداها على السّطور الخاوية.
تمرّ عليه أوقات قد يكتب فيها في اليوم فصلا من رواية، وأوقات يعجز فيها عن قفل جملة واحدة، وأمّا عن الأسباب فللكتابة طقوس خاصّة ومكان وزمان مفضّل. هل يمكن لطبيب أن يجري عملية جراحيّة دون توفر أدواتها، أو دون مكان ملائم؟ بالطبع لا والكتابة أشبه بعملية جراحيّة للحروف والكلمات، يلزم فيها استئصال لكتل الأفكار المشوِّشة من ذكريات وآلام وطاقات سلبيّة.
يتم فيها ربط للوقائع والأحداث وتصوير دقيق شامل لأعمق طبقات النّفس وما يختلجها من أحاسيس. عمليّة تحتاج لتهيئة الأدوات المناسبة باستحضار للكلمات، وتهيئة المزاج وأخذ جرعة من المحفّزات، والرّاحة النّفسيّة قبل البدء حتى لا يغتال الحرف تحت وطأة التّشتّت أو الخوف أو الضّغوط. ويُجمع الكثير من الكتاب على أن العزلة مناخ الكتابة، كما أكدّ على ذلك الشّاعر الكبير نزار قباني بانفصاله عن كل ما يحيط به حتى ينهي كتابة القصيدة، كما اعتبر الكاتب الأمريكي الشّهير همنجواي الزّوار والهاتف من أخطر مدمّري العمل الأدبي.
أما الكاتب غابرييل ماركيز فكانت تتمثل طقوسه بجدولة ساعات الكتابة، إذ كان يخصّص ساعات محدّدة للكتابة بشكل يومي، لما كان يواجهه من صعوبة في الكتابة إن انقطع عنها في اليوم السّابق. كان يعتبر الفصل الأول من الرّواية هو الأكثر صعوبة وشقاءً، فقد كان يستغرق منه الفصل الأوّل لوحده عاما من الكتابة، وعندما كان ينتهي منه ينجز ما تبقّى بشكل سريع. وعرف عن الكبير محمود درويش كثرة تمزيقه للأوراق، وكتابته بقلم الحبر السّائل، فتتدفّق أفكاره مع كل قطرة فيه. ولكل كاتب مكان مفضّل تكون فيه قوة جذب القلم للكلمات أكبر، فمنهم من يتجلى وحيه وإلهامه في غرفة النّوم أو الشّرفة، ومنهم من يجد ضالته في المطبخ.
منهم من يشرق شعاع كلماته على الورق في الصّباح ومنهم من يشرق في المساء، فلا وصفة سحريّة عامة للإبداع، فكل كاتب له عالمه الخاص، ولكن هناك قواعد عامة.
فلكل من يعانون من نقص في مناعة الحروف، وقدرتها على التّبلور، والتّعبير. لكل من يحسّون بجفاف كلماتهم وتبعثرها أقول: عليكم بتحرّي هلال الكتابة في كل وقت، وذلك بتدوين ملاحظات أو أفكار سريعة عن مواقف ترونها؛ لتبنوا عليها وتحوّلوها فيما بعد إلى نوع من الكتابة الأدبيّة كقصّة أو مقالة أو رسالة أو قصيدة بما يتناسب مع الموضوع.
عليكم بالكتابة كلما شعرتم برغبة بها مهما كانت أفكاركم مترامية أطرافها، فكل محاولة مهما بدت بسيطة يمكن الإضافة عليها وتنقيحها وتلقيحها بنصوص وعبارات أقوى، وإعادة بنائها بشكل أنيق مميز، فكم من نصوص عظيمة خالدة لم تصل إلينا إلا بعد كثير من الأوراق الممزّقة، التي كانت كبذرة طارت مع الريح، فصارت شجرة معمرة، تنتج ثمار الإبداع بلا توقّف! إذن عليكم باللّجوء للمكان الذي يتدفّق فيه ينبوع إبداعكم، هاربين إليه من الجميع، ومن كل ما يقتحم صفاء أذهانكم.
تذكّروا أن ذلك كلّه يعود عليكم بأكبر النّفع؛ لأن استمرار الحصار على كلماتكم، وفرض الإقامة الجبرية عليها داخل قوقعة محبرتها يهدّدها بالوهن والاندثار، ويحول بينكم وبين فسحتكم الروحيّة فتهبطون من أفق اللّاحدود إلى قاع الضّجر والجمود. فمن اعتاد على صعود سلّم الكلمات، وتسلّق قمم رفعتها لن يستطيع أبدا العيش بين حفر الصّمت، ومن يريد أن يكون كاتبا رفيعا لا بد أن يرفع قبعة قلمه كثيرا، ولا يدعه يجفّ حتى لا تتعسّر ولادة كلماته على الورق أبدا.