محمد المحسن
أمد/ ..مرّت عشر سنوات ونيف على ثورة حملت معها حلم الانعتاق من واقع القهر والبؤس في تونس،إذ صاغ الشعب بدماء شيوخه وشبابه صفحة جديدة من تاريخ تونس الحديث.ولئن كان النفس الرافض مبهرا في تجلياته الثورية،فإنّ الشغل الشاغل اليوم،هو عن سؤال أي مستقبل ينتظر الثورة التونسية المجيدة التي ألهب وهجها المنطقة العربية برمتها..
لقد استطاعت تونس تحقيق خارطة الطريق التي راهنت عليها القصبة 2،والتي كان الشباب الحاضر الأبرز فيها،فتمّ إنشاء دستور حظي بإجماع نواب المجلس الوطني التأسيسي،وتمّ إنشاء قانون للعدالة الانتقالية ومؤسسات دستورية لحماية مكتسبات الثورة..
ولكن ما يبعث على القلق،هي حالات التردي بجميع أشكالها التي تسيطر على البلاد في ظل تفاقم الأزمات الإقتصادية والإجتماعية واشتداد المخاطر الإرهابية واندلاع العديد من بؤر التوتر والإحتقان.هذا في الوقت الذي يلهث فيه عدد كبير من السياسيين ممن ركبوا سروج الجشع خلف الأضواء والنفوذ دون أن يهتموا بتداعيات التدافع الإنتهازي على المسار الديمقراطي..
أقول هذا،وأنا على يقين بأنّ الأوضاع على المستويات الإقتصادية والإجتماعية بالخصوص،مثيرة للقلق الشديد،بالرغم من التحسّن الملحوظ على الصعيد الأمني،-وهذا الرأي يخصني-،بفضل ما تبديه قوات الجيش والأمن والحرس من مجهودات مكثفة لتعقب الإرهابيين وإحباط مخططاتهم والإطاحة بخلاياهم وكسر شوكتهم على غرار ما حصل بمدينة بن قردان الأسطورية..(07 مارس 2016)
كان من المفروض أن يؤثّر التحسّن الأمني ايجابيا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية.لكن ذلك لم يحصل إطلاقا.فالوضعية العامة جدّ حرجة.وأصبحت خاضعة أكثر فأكثر لكل أنواع التوظيف السياسي.إذ تحاول الأحزاب والحركات والتيارات والمنظمات استغلال المستجدات الحاصلة لخدمة أجنداتها الضيقة غير عابئة بما يتطلبه الأمن القومي للبلاد من إلتزام بقواعد التضامن الوطني لمجابهة مثل هذه المشاكل.
ما أريد أن أقول؟
لقد شعر الونسيون بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت خلال السنوات القليلة الماضية إلى حدود 1.7 في المائة.ويعود ذلك إلى موجة الإضرابات من جهة،وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق،من جهة ثانية.وهذا ما دفع بالإخصائيين في المجالات الإقتصادية إلى إطلاق صيحة فزع تؤكّد أن الأوضاع بدأت تقترب من حافة الهاوية.حيث أشارت العديد من التقارير الصادرة عن هيئات مختصة إلى تراجع حاد في أداء مؤسسات الإنتاج والإدارات والمنشآت العمومية،مما حدا بكبريات المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي،إلى الرفع من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز “الإصلاحات”المطلوبة،لأنه في حال عدم إنجاز ذلك،فإن المساعدات المالية قد تتوقّف..
وهنا أقول: إذا كانت تونس قد تمكنت فعلياً من مجاوزة المخلفات السلبية للتحول الديمقراطي،وتجنب الوقوع في حالة الفوضى،أو العودة إلى مربع الاستبداد،وهو أمر لا يمكن إلا الثناء عليه،غير أنه من الأكيد أن الوتيرة الحالية للحراك الحكومي،وما يشوبه من عجز،ومن غياب المسؤولية،ورغبة في تحميل ارتباك الأداء للقوى السياسية التي هي خارج الحكم،قد لا يبشر بخير،خصوصاً إذا لم تتم مراجعة المسار الحكومي الحالي،وفتح حوار مجتمعي واسع،يشمل كل القوى السياسية والاجتماعية،من أجل إقرار خطة شاملة وعاجلة،لتفكيك الأزمات والدخول في هدنة اجتماعية تمنح مؤسسات الدولة الفرصة لالتقاط أنفاسها،وإعادة بناء نفسها،بصورة تسمح بتحقيق بعض التقدم،في غضون السنوات الخمس المقبلة..
وهذا يقتضي-في تقديري-من الحكومة الحالية(حكومة الحشاني) التعامل مع الأوضاع وفق سلم أولويات بإعتبار أنّ الأولويات هي التي تحدّد الأهداف وتثبت الإلتزامات وتمكّن الحكومة من مصداقية لدى عموم الناس.كما أنّ-أحمد الحشاني-مدعوّ بدوره إلى استيعاب-الدرس-جيدا وعدم السقوط في ذات الأخطاء ومن ثم القطع مع كل مظاهر التذبذب والإرتجال والتردد والإرتباك والخوف حتى لا يحيد المسار الديمقراطي عن مساره الصحيح ويتغلّب بالتالي الفتق على الرتق وتنحدر معنويات المواطنين إلى الحضيض..
إنّ المهمة المناطة على عاتق هذه الحكومة ثقيلة وشاقة،ولكن مصلحة تونس تهون دونها المشاق،المتاعب والمصاعب سيما وأن مطالب الشعب التونسي الذي خاض معركته ضد الظلم والظلام وفتح نافذة يطل من خلالها على أفق الحرية،لا تتجاوز سقف الممكن والمتاح (الإستقرار الأمني..تحسين المقدرة الشرائية..الحريات الفردية والعامة..إلخ) وهي مطالب في مجملها محمّلة بشجون عديدة..
إن تونس-اليوم-وأكثر من أي وقت مضى،في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا..
وهنا أؤكّد على أنّ تونس في ضوء الحصيلة التي حققتها عملية بن قردان البطولية،حقّقت إنتصارا عسكريا ذا دلالة،بينما في المقابل تبدو الطبقة السياسية مضطربة،ولا يعرف ما إذا كانت قادرة هذه المرة(بعد ملحمة بن قردان البطولية ب8سنوات) على هضم دروس المرحلة السابقة أم لا.؟ !
وما أخشاه هو أن يعود الجميع-بعد الإنتصارات الباسلة لوحداتنا العسكرية والأمنية على الإرهابيين-إلى مواقعهم السابقة لينشغلوا من جديد باهتماماتهم الصغيرة،وإعادة إنتاج الصراعات الدائرة منذ تسع سنوات بين الأحزاب أو بين الأشخاص،أو بين المعارضة والحكومة،لأسباب معيشية واجتماعية وغيرها.وفي لحظة ما يستفيق الجميع من غفوتهم ويتكرّر السيناريو من جديد تحت وقع الأخبار السيئة،عندها يتم إنتاج نفس ردود الفعل.
أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديموقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم..
وإذن؟
لابد إذا،من بذل جهود ضخمة في سبيل بناء ثقة المواطنين في نخبهم السياسية وفي المشروع الوطني،فالرأي العام لم يعد يخفي شكوكه في قدرة هذه النخب على حسن إدارة المرحلة الإنتقالية،وهو ما عكسته عمليات سبر الآراء.في المقابل،إنّ ثقة التونسيين في المؤسستين الأمنية والعسكرية لاتزال قوية،وهي مسألة في غاية الأهمية دفعت بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى إستثمارها من خلال النداء الذي وجّهه أثناء ملحمة بن قردان إلى المواطنين بالمناطق الجنوبية والحدودية،لطمأنتهم وإقناعهم بأنّ الدولة تقف إلى جانبهم.
من هنا،فإنّ-تونس-تستحق أداء أفضل،لأن مقومات النجاح متوفرة.سيكون من الخطأ التاريخي الذي لن يغتفر إذا انهارت التجربة،وهي في منتصف الطريق.عندها،لن يسامح التونسيون أنفسهم،ولن يحق لهم أن يلقوا بمسؤولية الفشل على عاتق غيرهم،مهما كان حجم المؤامرات التي تُحاك ضد التجربة التونسية..
وأرجو..أن تصلَ رسالتي إلى عنوانها الصحيح..
يذكَر أنّ التونسين يحتفون اليوم بالذكرى الثامنة لملحمة بن قردان التي جدت فجر يوم 7 مارس 2016 في المنطقة الحدودية شرق الجنوب التونسي وأسفرت عن ارتقاء 21 شهيدا بين أمنيين وعسكريين وديوانة ومدنيين مقابل القضاء على نحو 50 عنصرا ارهابيّا.
وساهم الشهداء في ملحمة أثارت اهتمام المجتمع الدولي وباتت فخر التّونسيين الذين نجحوا في احباط مخطط إقامة إمارة داعشيّة في بنقردان الحدوديّة انطلاقا من ليبيا وجنّبوا تونس الكارثة بعد أن سيطر الإرهابيون على المدينة ومفاصلها لمدة ساعتين (من س5 الى س7صباحا)، وفق شهادات موثّقة.
ومن أبرز ما يميّز هذه الملحمة ما قام به الأهالي الذين شكّلوا درعا بشريا لحماية القوات الوطنية المسلّحة من أمن وجيش،”في إلتحام بطولي لأهالي بنقردان برجال الأمن والجيش وفي واقعة تاريخية حازت اعترافا دوليا بمواجهتها للإرهاب”، ولتثبت بنقردان أنها عصيّة على الإرهابيين ولتسطّر ملحمة بأحرف من ذهب في تاريخ تونس.