محمد المحسن
أمد/ الشاعرة التونسية د- فائزة بنمسعود : تتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته،وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي..
(رؤية الشاعرة الجمالية..واستدراج المتلقي إلى مربع الجمال في قصيدة “يـــــأتــــي..”-نموذجا-)
تصدير :
يعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ،ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد،وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة،في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها.
في هذه الدراسة نهدف إلى الكشف عن مثيرات اللذة الجمالية التشكيلية في واحدة من القصائد المميزة في شعرية د-فائزة بنمسعود،هذه الشعرية التي أثارت الحركة الجمالية من خلال فاعلية الصور المؤثرة المتحركة بإيقاعاتها العاطفية لتحقق إيقاعها الجمالي النصي،وهذا يعني أن الشعرية كتلة مؤثرات جمالية تحقق إيقاعها الجمالي النصي،التي تجعل القارئ يسبح في بحر من المؤثرات الجمالية التي تخلقها القصيدة على المستوى الفني والجمالي.
ولعل من مساعي الدراسة الكشف عن المؤثرات الجمالية التي تحكم إيقاعها التشكيلي،إذ يلحظ القارئ أن الأبيات تقتضي بعضها بعضاً وفق مؤثرات جمالية تتحكم في مؤثراتها ومغرياتها النصية،والشاعر المبدع هو الذي يحقق قيمة جمالية في هندسة قصائده على المستوى الإبداعي.
ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن الشعرية قيمة تفاعلية مؤثرة في خلق المؤثرات الجمالية التي تباغت القارئ بمستوى المكتشفات النصية التي تحقق غايتها وقيمتها الإبداعية.
يـــــأتــــي..
يأتي ومن عينيه خيانته
ناضحة
متلبسا ببراءة الأطفال
متلبسا بعطر كل اللواتي
مررن بين اصابع يديه
ولاعبهن الورق
وامتص سذاجتهن
وباعهن لندم وأرق
لماذا ينسى
ان احمر الشفاه على قميصه الابيض
فاضحه
لماذا ينسى أنني بنواياه وما اخفى عارفة
وحيله كاشفة
ولست أنا مَــنْ بين يديه
ترتمي تلتمس حبه راجية
يالسذاجة هذا العاشق المتيم
أو يظن انني ببقايا رجل قابلة؟
رجل مشتت بين لعوب وشامتة
ايها الساعي لحتفه
انا الأولى والآخرة
فلا تشتر حطام الدنيا وتبع الآخرة
انا خير وأبقى لو تدري
أنا الصالحات الباقية
لا تعتقد ان في حبك ارديتني
بالضربة القاضية
أنا امراة من زمن آخر
لا أرضى بقلب هو جسر عبور
لكل مارة وعابرة
ولست أنا من تضمّد كدماتك
ولا انا من ترتق جراحاتك
حتى ان كنت على ذلك قادرة
سيدي
عد من حيث جئت
على رصيف الرغبات
ابن لك مزارا وأقم به
أيامك الباقية
ولا تظنن أني لأجلك
ساكتب أحزان عمري قصيدة خجلى
(د-فائزه بنمسعود)
تعد الشعرية قيمة جمالية متغيرة بإيحاءاتها وتشكيلاتها النصية،والقارئ الجمالي هو الذي يباغت المتلقي بأسلوبه الشعري،من خلال التشكيلات النصية المراوغة،وحراك الدلالات الشعرية التي تباغت المتلقي بأسلوبها التشكيلي الانزياحي الخلاق بمؤثرات الدلالة ومثيراتها النصية،وهذا يعني إن أي ارتقاء جمالي في قصيدة من القصائد يظهر من خلال بناها النصية المفتوحة ورؤاها العميقة.
وبتقديرنا: إن الوعي الجمالي في اختيار النسق الشعري المؤثر والكلمة المؤثرة في بنية القصيدة هي التي تحدد الإمكانية الجمالية التي يمتلكها المبدع في خلق الجمالية النصية،وما من شاعر موهوب إلا ويملك الخصوصية الإبداعية،تبعاً لمحفزاته الشعرية،وطريقة الاختيار، وبراعته في اختيار النسق المناسب جمالياً،ومن هنا تختلف شعرية المحفزات النصية من قصيدة لقصيدة،ومن سياق شعري إلى آخر،تبعاً لحساسية المبدع الجمالية ودرجة شعرية النسق،ولهذا نلحظ اختلاف درجة شعرية المحفزات في قصائد الشاعرة التونسية د-فائزة بنمسعود (أزعم أني اطلعت على جلها) تبعاً لحساسية الشاعرة وبراعتها في الانتقال من نسق تصويري إلى آخر،ومدى الوعي في الاختيار النسق الجمالي المؤثر في إيقاعها الشعري،ومن هنا يختلف الشاعر المبدع عما سواه وفقاً لحساسيته الرؤيوية،وبراعته النسقية في التشكيل والخبرة المعرفية في الانتقال من نسق شعري إلى آخر،وهذا دليل الحنكة الجمالية في التشكيل والوعي الجمالي في تفعيل المحفزات الجمالية تبعاً لحساسية الرؤية وفنية اللغة في التعبير عن الفكرة الشعرية.
وبتصورنا:إن الفكر النقدي الإبداعي يقف على المثيرات النصية المؤثرة التي تجعل القارئ يتلذذ بمتعة المكاشفة والاكتشاف الجمالي،فالقارئ الجمالي هو الذي يكتشف ما خفي من النص، ويكتشف الرؤى البؤرية العميقة التي ينطوي عليها،ومن هنا فمن يبحث في مثيرات الشعرية ومتحولاتها النصية في قصيدة من القصائد عليه أن يقف على المتغيرات الجمالية التي تنطوي عليها القصيدة في تجلياتها النصية الشعرية المفتوحة برؤاها ودلالاتها النصية.
ومن يطلع على قصيدة (يأتي..) لشاعرتنا د-فائزة بنمسعود،يلحظ أن البناء الجمالي الذي تؤسس عليه حركة القصيدة يرتكز على المقومات والبؤر النصية التي تحقق قيمة جمالية عالية،من حيث الاستثارة والفاعلية واللذة في التلقي الجمالي..
إن احتفاء الشاعرة بالصور هو احتفاء في تأسيس اللغة الشعرية على مثيرات درامية مفتوحة في تشكيل القصيدة،وهذا ما يجعل الرؤيا الشعرية متغيرة في تجلياتها الإبداعية تبعاً لفاعلية الصورة الشعرية عند -فائزة-وغناها بالمؤثرات التشكيلية التي تحقق إيقاعها الجمالي بأقصر الألفاظ وأرقى الصور الشعرية في الإحاطة بالموقف والحدث الشعري في آن معاً.ومن هذا المنطلق تغتني الشعرية في قصائدها بدلالات شتى لأنها نابعة من روح شاعرية مفعمة بالرؤى والدلالات الشعرية الجديدة.
وأختم دراستي”العجولة” بقصيدة “أنـــثى الاستثناء”
احملــني ان استطعت
الى حملـي سبيلا
احملــني
فحملــي خفيف
راقصــني
والرقص للأنثى إحتواء وترويض
وأنت الحاوي
ولك في ترويض عيني تفويض
طوقــني
وأوقف دوران الأرض حول خصري
وكن مركز الجاذبية
أنا أنثى أنحني أنثنــي
أتلوّى
أتعـرّج كدخان سيجارة
تنفثه شفاه لعوب
راقصــني
وأرقص معـي رقصة الفراغ
خطوة إلى الأمام وخطوات الى الوراء
والوراء فراغ
ونحن صغار نخاف الفراغ
ونحن كبار نخاف الفراغ
كنا حروفا بلا نقاط
ولا حركات
امتلأنا نقاطا واستعبدتنا الحركات
تراقصني
ولست معي
ولست معك
ولست أنا
ولست من الصابرين
فأين أنا؟
هل أنا لمعة برق
في سماء أطفأت نجومها
هل أنا واحة نخيل
سرابها بلا ماء
هل أنا إلاهة حب تنكرت لها السماء
ونبذها الأنبياء
هل انا فتاة الغاب
بشعاع الشمس أستحم
وأتنشّف بالماء
أنــا هذا وأكثر أنا أنثى الاستثناء
يــا فارسا صهوة الشعر امتطى
أنا يـا أنــا صرخة في وادٍ
بلا صدى
أنــا صفعة قدر على وجه ماء..
ذا أنا على فراش الفراغ أتقلّب..
(د-فائزه بنمسعود)
لابد من الإشارة بداية إلى أن جمالية الموقف الشعري تتحدد من جمالية الرؤيا الشعرية، ومتخيلها الشعري المتقد،وحراك الشخصية الشعرية،والحدث،والمشهد الشعري،وبمقدار تلاحم هذه العناصر،وتفاعلها في المشهد الشعري،يزداد الموقف الشعري عمقاً،وإثارة،وشاعرية،وتتأكد -من ثم- فاعلية الرؤيا الشعرية،وإصابتها المغزى البعيد،أو الموقف المراوغ،ولهذا،فإن تفاعل الأحداث في القصيدة يأتي من إثارة الرؤية المتخيلة،والإحساس الجمالي بالشخصية،بتضافر التوصيفات الشعرية،وتفاعلها المثير،كما في هذه الصور الناضجة إحساساً ورؤيا:( في سماء أطفأت نجومها/هل أنا واحة نخيل/سرابها بلا ماء/هل أنا إلاهة حب تنكرت لها السماء/ونبذها الأنبياء/هل انا فتاة الغاب/بشعاع الشمس أستحم/وأتنشّف بالماء)،إن قيمة الحيرة وجسارة السؤال تتحدد من عمق المتخيل الشعري وقيمه،ودهشة الصورة المقترنة بالشخصية،فالشاعرة-هنا-لا تترجم إحساسها الجمالي بالشخصية الروائية بالقص السردي الباهت،والنقل الفوتوغرافي البلاستيكي للأحداث،وإنما بالصور الدافقة بالجمالية،وعمق الإحساس،على شاكلة قولها:
ونحن صغار نخاف الفراغ
ونحن كبار نخاف الفراغ
كنا حروفا بلا نقاط
ولا حركات
امتلأنا نقاطا واستعبدتنا الحركات
تبني د-فائزة بنمسعود لغة قصائدها على أساس معجمي لغوي متين،تارة باستخدام العبارات القصيرة القوية،وتارة أخرى باستخدام الجمل التركيبية الحاملة للدلالات المتعددة التي تسمح بالتأويلات المتعددة،حيث تبرز لنا من خلال هذا كله أن الشاعرة بمثابة -نسّاجة-تنسج لغتها الشعرية بأسلوب فني وحرفي واضح،بل يتأكد لنا أنها تأخذ وقتًا كبيرًا في إخراج القصيدة الواحدة إلى حيز الوجود مهما كان شكلها وطولها.وهي(د-فائزة) تبحث في قصائدها عن خلق الإثارة الإبداعية لدى متلقيها وجذبه إلى التشبع بلغتها الشعرية وأسلوبها الجميل من حيث الصياغة والتركيب.هذه اللغة المثيرة تستدعي بالضرورة من الناقد القارئ قدرة فكرية على تأويلها والبحث في خصائصها ودلالاتها المتعددة.
إن رؤية اللغة الشعرية في اغلب قصائد د-فائزة بنمسعود هي رؤية شعورية تصويرية للمواقف والأفكار والأحاسيس بأسلوب فني وجمالي بارز،هذه اللغة المثيرة للمواقف وقدرتها على إثارة المشاعر لدى المتلقي باعتبارها،حسب جوزيف حرب* «قنديل الإبداع المضيء الذي يضيء التجربة بقنديل من نور،ويبعث فيها شعاعها النهي الطهو..إنها أداة المبدع الطيعة التي يشكلها ببوح الخيال،وسحر الجمال..باختصار إنها حياة النص،وقلبه النابض”.
وتتأطر الكتابة الشعرية في قصائدها على شكل جمل قصيرة مكثفة تستحضر لغة تصويرية محددة العبارات والكلمات باستخدام تقنيات متحققة دلاليًا وثقافياً وتنظيميًا.إنها تستخدم إيقاعات تصويرية منتظمة وفق أنساق لغوية تركيبية متوازنة:
احملــني ان استطعت
الى حملـي سبيلا
احملــني
فحملــي خفيف
راقصــني
والرقص للأنثى إحتواء وترويض
وأنت الحاوي
ولك في ترويض عيني تفويض
يظهر لنا من خلال هذا المقطع الشعري،أن لغة الشاعرة قد أصبحت عاملًا قويًّا في جعل أجزاء النص الشعري بمثابة أدوات لتوصيل الفكرة والموقف ودلالتهما،واستحضار مستوى اللغة الجمالي والفني للتعبير عن مشاعرها الصادقة والعميقة تجاه الأشياء والناس.كل هذه الأشياء تؤكد على فكرة أساسية تتجلى في رغبة الشاعرة في منح نصها الشعري هويته الجمالية والفنية والشعرية التي تمثلها أفضل تمثيل أمام متلقيها.
وأخيراً: إن جمالية الرؤيا وبلاغتها في أي منتج فني أو أدبي لا تتحقق بتمامها إلا بتكامل وتفاعل أنساقها ووحداتها ومضمونها،وحركية أنساقها،ومشاهدها ومدلولاتها،وشخصياتها، وإحالاتها الجديدة،ومتعلقاتها الملصقة بها،مما يعني شعرية الحدث والموقف الجمالي المؤثر.ولهذا تشتغل قصائد “فائزة”على أوتار الرؤيا وفواعل الحدث النشط والمشهد البانورامي المحتدم المؤثر.
لك مني -يا فائزة- سلة ورد..وتحايا مفعَمَة بعطر الإبداع
**جوزيف حرب (1944-2014)،شاعر لبناني،يعدّ من أبرز الشعراء اللبنانيين الذين تجاوزت قصائدهم حدود الوطن.وقد غنى من شعره: السيدة فيروز ومارسيل خليفة،ولحَّن له رياض السنباطي: «بيني وبينك» و«أصابعي».حاز العديد من الجوائز وشهادات التكريم في لبنان والعالم العربي.