أسامة خليفة
أمد/ يتناول كراس «طوفان الأقصى، وما بعده» -الصادر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»- مواضيع فلسطينية عدة، تأتي في سياق الحرب العدوانية على غزة، ومنها موضوع التداعيات الإقليمية والدولية لمعركة طوفان الأقصى.
لقد شكل الرهان على الشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته وإرادته، العنصر الأقوى في نجاح بناء ميزان قوى ميداني واستتباعاً سياسي، من شأنه أن يفيض بنتائجه على المعادلات القائمة، ويؤثر في المواقف الإقليمية والدولية، ولعل التغيير الذي طرأ على موقف أوروبا مؤخراً في موضوع وقف إطلاق النار يقدم مثالاً على ذلك، حيث ارتفع عدد الدول المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، إلى 26 دولة أوروبية -من أصل 27 دولة يتشكل منها الاتحاد الأوروبي- تطالب بهدنة إنسانية بغزة تفضي إلى وقفٍ لإطلاق النار.
أعادت العملية العسكرية «طوفان الأقصى» حالة الزخم للقضية الفلسطينية على الأجندة الإقليمية، وأنهت طموحات تل أبيب للإعلان عن «الموت الإكلينيكي» للقضية الفلسطينية، وبالتالي فرضت هذه المعطيات القضية الفلسطينية باعتبارها رقماً مهماً لا يمكن تجاهله في حسابات المشروعات الإقليمية المرتبطة بمسار الاتفاقات الإبراهيمية.
عملية «طوفان الأقصى» حرب تختلف عما سبق من الحروب العدوانية على القطاع، كونها تجاوزت حدودها المحلية، إن بتداعياتها، أو بالنتائج المباشرة المترتبة عليها، الأمر الذي ينطبق على حالات، ذات دلالة، من بين ما تزخر به الحالة الدولية، الإقليمية، المحلية من أمثلة وتفاعلات:
-الحالة الأولى، القيادة الفلسطينية الرسمية التي حصرت نفسها في الزاوية الضيقة للحركة السياسية في الإقليم، بدت على هامش المشاورات الجارية، لولا تلك الكوة الضيقة التي توفرت لها من خلال عضويتها في لجنة المتابعة المنبثقة عن قمة الرياض العربية – الإسلامية.
في هذا أيضاً برز المفهوم الأمريكي- الاسرائيلي عن «السلطة المتجددة» التي ليست إلا استعادة للـ«قديم» من خلال تشكيل سلطة فلسطينية تصطف في المعادلة الأمريكية للإقليم، وفي القلب منها تصفية القضية الفلسطينية، ولعل جيك سوليڤان، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض عبَّر بوضوح، عن شروط «إعادة بناء السلطة الفلسطينية وتجديدها» لتتحمل مسؤولياتها في المرحلة التي تعقب وقف إطلاق النار، عندما حدد لها ثلاث مهمات: «الالتزام التام بأمن دولة إسرائيل، والالتزام التام بقيم المجتمع الدولي، وتلبية احتياجات الشعب الفلسطيني».
-الحالة الثانية: «محور المقاومة»، وإسناد غزة:
على صعيد الإقليم، تأكد التنسيق بالتوازي في الجهد المشترك، بين المقاومة الفلسطينية وبين حركات التحرر الوطني المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، الناشطة تحت مظلة ما اصطلح على تسميته بـ «محور المقاومة»، التي انخرطت بجهد إسنادي حقيقي للمقاومة الفلسطينية في أكثر من ساحة، غير أن حقيقة الأوضاع السائدة بحسابات ميزان القوى، والظروف المتحكمة بالقرار الاستراتيجي، بتأثير الشرط السائد في المكان، رسمت لهذا المحور سقفاً عملانياً بحدود المشاغلة والاستنزاف، إنما المنفتحتين – في الوقت نفسه – على مزيد من التصعيد النوعي تبعاً لمعطيات الميدان، وهذا ما تؤكده الجبهة العسكرية المؤثرة التي افتتحتها المقاومة الإسلامية انطلاقاً من جنوب لبنان، بدءاً من اليوم التالي لاندلاع الحرب 8/10، كما وجبهة «البحر الأحمر» التي يديرها الجيش اليمني بمرجعية حركة «أنصار الله»، وإلى حد ما جبهة المقاومة العراقية بعدد من فصائلها التي تستهدف القواعد الأميركية المنتشرة في كلٍ من العراق وشمال شرق سوريا.
في هذا السياق، وجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع إقليمي ودولي شديد التعقيد، فالحرب هزَّت أركان الإقليم كله، وفتحت الباب أمام عديد الاحتمالات، منها اشتعال الحرب على أكثر من جبهة ذات صلة بالملف الفلسطيني، أو بتداعياته، ما يضع واشنطن أمام استحقاقات عسكرية وأمنية، رأت فيها تهديداً، ليس لدولة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني فحسب، بل وللمصالح الأميركية عموماً في المنطقة بأسرها، وبما يتعداها، فسارعت مع حلفائها الأطلسيين، إلى تحشيد الأساطيل أمام سواحل بلدان المنطقة، كخطوة أرادت منها أن تبرز قدرتها مع حلفائها على ردع الأطراف الإقليمية، التي قد تساورها أفكار «التدخل» في الحرب، دعماً للشعب الفلسطيني وإسناداً لمقاومته. إن استعراض القوة الأميركية تلويحاً بالردع، كشف – في الوقت نفسه – عن تراجع الدور الردعي المستقل لإسرائيل، وبما ينال من إحدى وظائفها الاستراتيجية في الإقليم.
– الحالة الثالثة عربية، بين الحالة الرسمية والحالة الشعبية:
إن أقصى ما نجحت المنظومة العربية الرسمية في تحقيقه هو الدعوة إلى قمة عربية – إسلامية في الرياض– 11/11/2023، انبثقت عنها لجنة متابعة لم تتجاوز تحركاتها حدود «عرض الحال» التي تفتقر إلى القدرة على طرح مبادرة ذات مغزى، تستند إلى عناصر القوة للدول الكثيرة في الإطارين العربي والاسلامي، لم يكن بمقدورها أن توظف ثقل «منظمة التعاون الإسلامي» النوعي، أي وزن كتلة دولها الـ«57»، للجم العدوان، ما أحالها إلى هوامش الحراكات السياسية الرسمية الجارية في أكثر من مكان.
على أهمية الموقف الوطني والقومي المسؤول لكل من مصر والأردن، في الرفض القاطع للضلوع بمخطط الترحيل للشعب الفلسطيني واقتلاعه من تراب الوطن (من القطاع إلى مصر، ولاحقاً من الضفة إلى الأردن، الذي اعتبر – بدوره – التهجير بمثابة إعلان حرب)، لكن أمام ذلك فشلت المنظومة العربية الرسمية في تحمل مسؤولياتها القومية والأخلاقية نحو قضية فلسطين، دفاعاً عن شعبها في مواجهة العدوان المتمادي، إذ تعرضت هذه المنظومة خلال ولاية ترامب 2017-2021 إلى اختراقات استراتيجية، فاقمت انكشافها على الضغوط الخارجية، عندما نجحت الإدارة الأميركية في بناء «تحالف أبراهام» وفي امتداده «منتدى النقب» السداسي (الإمارات + المغرب + البحرين + مصر إلى جانب واشنطن وتل أبيب)، باعتبارهما الإطارين السياسي والاقتصادي والاستراتيجي للإقليم، المسخرين في خدمة سياسة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ودمج إسرائيل فيها وإعادة صياغة المعادلات الحاكمة للسياسات العليا، بما يجعل من إسرائيل حليفاً، والجمهورية الإسلامية في إيران عدواً.
لقد أضعفت هذه التطورات مناعة النظام الرسمي العربي وخلخلت تماسك الموقف من القضية الفلسطينية، بما في ذلك الابتعاد عن التمسك بمضمون وآلية تطبيق «مبادرة السلام العربية»، ما عنى تغليب الاستجابة لمصالح الأنظمة وارتباطها التبعي بالاستراتيجية الأميركية في الإقليم على حساب القضية الفلسطينية وحقوق شعبها.
أما الحراكات الشعبية العربية التي عبَّرت عن تمايزها عن السياسات الرسمية العربية، وانتصرت للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، فقد أبرزت حالة غضب عارم أمام العجز الرسمي العربي عن وقف العدوان على الشعب الفلسطيني، كما عكست إحساساً عميقاً بعمق ومدى تهديد الكيان الصهيوني مصالح الشعوب العربية، وللخطورة المتعاظمة للمشروع الصهيوني التوسعي، وإدراكاً عميقاً لما سوف يحدثه انتصار إسرائيل من تداعيات سلبية على الشعب الفلسطيني، وكسر إرادته ومقاومته. لقد جاءت الحراكات الشعبية العربية لتعبر بصدق عن طبيعة الصراع القائم، ولتضع أنظمتها أمام واجبات تمس المصلحة القومية بالصميم، إذا لم يتم الأخذ بها، فالمصالح العربية كلها ستكون في خطر.
نقطة الضعف في هذه الحراكات الشعبية العارمة وبشعاراتها السياسية الواعية والصريحة، تكمن بافتقارها إلى العنصر الضروري للتنظيم، الضامن لاستدامتها، لأسباب عدة لسنا بواردها، نكتفي بالإشارة إلى أحد أهمها، وهو الطبيعة السلطوية أو النازعة إليها، للنظام الرسمي العربي بشكل عام، التي تحد من تمكين المواطن ممارسة دوره الحر في المساهمة بصناعة وتقرير مصير وطنه. إن افتقار الأنظمة العربية في جملتها إلى أقنية التواصل الديمقراطي بين الحاكم والشعب عَطَّل كثيراً من قدرة الحراكات الشعبية على التأثير في مسار حرب 7/10.
الحالة الرابعة – الدور والنفوذ الروسي والصيني والإيراني
جاءت عملية طوفان الأقصى في وقت يتزايد فيه الدور والنفوذ الروسي والصيني والإيراني ودول من أمريكا اللاتينية على المستوى الدولي في سياق التحولات الدولية لإعادة بناء نظام عالمي جديد يتجاوز نظام القطب الواحد، الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة، وساهمت الحرب العدوانية على غزة في فتح الطريق أمام تمدد الدور والنفوذ الروسي والصيني والإيراني في المنطقة، فعملية «طوفان الأقصى» شكلت ضربة محكمة للمشروع الاستعماري الصهيوني ولعموم المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وعززت مخاوف عواصم الغرب الأطلسي من أن تطلق هذه المعركة تطورات تقلص، أو حتى تقضي على الدور المحوري لإسرائيل في صميم المشروع الاستعماري على مدى الإقليم، لكن مع ذلك فإن دور ونفوذ أصدقاء الشعب الفلسطيني من خارج الحالة العربية ودول «منظمة التعاون الإسلامي»، كروسيا الاتحادية والصين الشعبية ودول أمريكا اللاتينية، في المدى الإقليمي – حتى الآن – لا يوفر لها شروط التأثير الفاعل الموازي للفعل الغربي في إدارة الحرب.
الحالة الخامسة إقليمية، يمثلها موضوع «التطبيع السعودي – الإسرائيلي»، حتى 6/10 كان «التطبيع» هو الحدث الرئيسي المسيطر على المشهد السياسي في الإقليم، أما الموضوع الفلسطيني، فلم يكن مطروحاً كموضوع قائم بذاته، تأكيداً لمقولة نتنياهو أن الأولوية تعود إلى استكمال عملية التطبيع التي افتتحتها «اتفاقيات أبراهام»- 2020، والتي من المفترض أن تتوج بخطوة حاسمة من خلال التطبيع الإسرائيلي – السعودي. وبات موضوعنا الوطني في سياق التطبيع، ينحصر في مجموعة من المطالب المعيشية، الاقتصادية، المسقوفة سياسياً، بما لحظته «اتفاقيات أوسلو»، أو بقاياها، حيث كان يجري البحث في توزيع هذه المطالب بشكل التزامات تقع على عاتق أضلع مثلث التطبيع، منها ما هو مطلوب من السعودية (الدعم المالي للسلطة الفلسطينية،..)، ومنها ما هو مطلوب من واشنطن (عودة القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، افتتاح مكتب م.ت.ف في واشنطن)، ومنها ما هو مطلوب من إسرائيل (التعهد بوقف مشروع الضم، توسيع مناطق (أ) و(ب)، حضور شرطي فلسطيني على المعابر، تسهيلات في تسييل أموال المقاصة، توسيع صلاحيات الحكم الذاتي).
«طوفان الأقصى» لم يقطع الطريق تماماً على كل هذا، لكنه – بكل تأكيد – أبطأ وتيرة العمل نحوه بالحد الأدنى، فعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، باعتبارها قضية تحرر وطني قائمة بذاتها، مستقلة، تستدعي حلاً متكاملاً، أبعد من الاستجابة لبعض المطالب، توزع هنا وهناك…
-الحالة السادسة: أوروبية بأبعاد دولية، هي الحرب في أوكرانيا
ضمن تداعيات الحرب التي فجَّرتها عملية «طوفان الأقصى»، تراجع موقع الحرب في أوكرانيا في سلم تدرج الاهتمامات، ليس من الزاوية الإعلامية لسخونته فحسب، بل من زاوية أهميته السياسية في أجندة واشنطن بخاصة، التي ليس بمقدورها – في الوقت عينه – أن تجمع بين مسؤولية نشوب أو توسيع نطاق حربين معاً، حتى لو تعاملت معهما، أو شاركت بهما بالواسطة: الأولى، في أوكرانيا من خلال الناتو، والثانية، في منطقتنا من خلال إسرائيل، باعتبارهما – أي النزاعين – يستبطنان معاً احتمال تحولهما إلى حروب ممتدة (إقليمية، أو ما يتعداها)، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لتركيز قواها وبناء شبكة تحالفاتها لمواجهة تعاظم قوة الصين، ومحاصرتها قدر المستطاع، إن كان في محيطها الإقليمي المباشر، أو الأبعد مدى.
الحرب المشتعلة منذ 7/10 في غزة (وامتداداً في الضفة الغربية) بتداعياتها الإقليمية، وما استتبعته من حشود واصطفافات، حوَّلت مركز ثقل الاهتمام (والأهمية) من قارة إلى أخرى، ما عزز المنحى الذي بدأت ملامحه ترتسم بشكل يزداد وضوحاً في أفق العلاقات الدولية، ألا وهو التقدم نحو اكتمال شرط تجميد الجبهة الأوكرانية لصالح تسوية (متفاوض عليها، أو بالأمر الواقع) تنهي أو تجمد الأعمال الحربية المباشرة في أوكرانيا.
لذلك قُرعت طبول الحرب في واشنطن وباريس وبون ولندن ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، وأعادت الولايات المتحدة صياغة بعض أولوياتها في السياسة الخارجية، لصالح إدارة الحرب ضد الشعب الفلسطيني مع التحسب لاحتمالات تحولها إلى حرب إقليمية، ولو على حساب الدور الأميركي – الأطلسي في حرب أوكرانيا، التي بهت وهجها نسبياً.
كما أن هذه التطورات تعيد التأكيد أن أوروبا الغارقة – بشكل عام – والمستغرقة حتى الأذنين في أزمات كبرى جرّاء ما يجري في أوكرانيا + الشرق الأوسط، إلى جانب ملف الهجرة، مازالت رهينة لسياسات الولايات المتحدة، الأمر الذي يفترض بالعواصم العربية أن تعيد قراءة المشهد الإقليمي قراءة جديدة، وعليها أن تدرك أن خطر الهيمنة الأمريكية والغربية عموماً، لا تطال الشعب الفلسطيني وحده، بل تستهدف المنطقة العربية بأسرها، وتلك قضية تضع حركات التحرر الوطني والديمقراطي العربية أمام استحقاقات جديدة في المديين المباشر والمتوسط.