عائد زقوت
أمد/ التحديات والتعقيدات التي تواجه القضية الفلسطينية بعد دخول حرب الإبادة والتطهير العرقي المفروضة على قطاع غزة شهرها السادس، تزداد حدة بكثرة اللاعبين السياسيين، حيث ما تزال واشنطن راعية لها من حيث الدعم العسكري المتواصل بلا انقطاع، وغطاء سياسي لا يتأثر بالخلافات بين الحزبين الكبيرين، أو بأقطاب القادة سواءً السياسية منها أو العسكرية، وفيتو أممي حاضر على الطاولة ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب فورًا، وعلى الصعيد الداخلي لا زال غياب وتراجع دور المكونات السياسية الوطنية، وعلى رأسها الرسمية الفلسطينية، ومن يديرون المعركة في غزة حاضرًا في تأثيره السلبي على مجريات الحرب وتطور تداعياتها، فعل الرغم من المخاطر الكبيرة التصفوية المحدقة بالقضية الفلسطينية، واستمرار نزيف الدم الفلسطيني ودائرة الموت والبطش والتنكيل لم تكن كافية لإنهاء حقبة المماتعة السياسية بين الكل الفصائلي، والخروج من السياسات الكهفيّة التي أودت بالشعب الفلسطيني وقضيته إلى جُرفٍ هارٍ فانهار بنا إلى عودة الاحتلال وإنشاء ممر إنساني يمثل بابًا مفتوحًا وواسعًا للهجرة القسر طوعية، وتمهيدًا عمليًا لتجاوز الكيانية الفلسطينية بخلق بيئة سياسية تقبل بوجود الإدارة المدنية، واستكمالًا لاحتلال غزة باجتياح رفح واخضاع المعبر البري للسيطرة الاسرائيلية المباشرة، واعتماد الممر المائي كمنفذ وحيد لدخول الاحتياجات الانسانية، وتواصل الفلسطينيين مع العالم الخارجي، وصولًا إلى الكيان الانفصالي في غزة، وبحسب التصريحات الصادرة عن البنتاغون من حيث أعداد الجنود، والسفن الحربية اللازمة لإنشاء الرصيف وتأمينه، ومع الأخذ بعين الاعتبار اتصاله بالطريق الجديد الذي شيدته إسرائيل الذي يربط غرب غزة بشرقها، فإنه سرعان ما سيتحول إلى قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة على ساحل غزة تهدف إلى ضمان أمن إسرائيل، وحماية غاز البحر المتوسط والاستحواذ عليه، وتعطيل طريق الحرير، وحصار النفوذ الروسي في المنطقة، ومحاصرة إمداد روسيا لإيران بأسلحة متطورة ونقلها إلى أذرعها، إضافة إلى حماية الطريق الاقتصادي الجديد -الهند إسرائيل- المزمع إنشاؤه كأحد مخرجات قمة العشرين لمواجهة التمدد الصيني الاقتصادي والتجاري.
الأخطار التي تحملها هذه القاعدة ممتدة وليست مقتصرة على فلسطين بمحاولة فلسطنة الاحتلال فقط، بل تستهدف تفكيك عناصر القوة الوطنية في المنطقة العربية بأكملها وفي مقدمتها مصر حيث يمثل هذا الممر الأول من نوعه الذي ليس لمصر دور فيه منذ عام 1948، مما يعني تقليص دورها في مناطق نفوذها، وانعكاساته على الأمن القومي المصري والعربي، وكذلك فيما يتعلق بتضييق نطاق حرية استخدام الغاز المصري من حيث التصدير وخاصة بعد دخول مصر منظمة البريكس التي تتيح لها التبادل التجاري عبر سلة من العملات غير مرتبطة بالدولار ومن بينها العملة المحلية، وأيضًا سيتم بإنشاء مثل هذه القاعدة استكمال حصار مصر بعد احتراق جميع أطرافها، والتي حاولت الولايات المتحدة الأميركية مرارًا وتكرارًا إنشاؤها داخل الأراضي المصرية أو على سواحلها وقوبلت بالرفض المصري حيث دفعت مصر ثمنًا باهظًا لموقفها بغزو أميركي لأمنها عبر أدواتها من المنظمات غير الحكومية، وتعزيز الأسواق الموازية بوسائل شتى لإضعاف اقتصادها، وليس انتهاءً بالربيع العبري لإسقاط الدولة المصرية وتقسيمها.
عَوْدٌ على بدء يتضح من خلال ما طُرح في لقاء الفصائل الأخير في موسكو حول ضرورة أن يكون التوافق على حكومة التكنوقراط ضمن خطة لإعادة بناء النظام السياسي برمته وانضواء جميع الفصائل فيها لتصبح مرجعية الحكومة منظمة التحرير، مما يشي أن الفصائل الفلسطينية منتهية الصلاحية ترى أنها لا زالت تتمتع بترف الوقت، ولديها فُسحة للمناورات للحصول على أكبر قدر من المكتسبات الحزبية، باستثمار تداعيات الحرب في التعبئة السياسية ليصب في خانة تبوئها الثقل الرئيس في تمثيل الشعب، قافزة بذلك على الإرادة الشعبية المٌغيّبة منذ قرابة العشرين عامًا.
سيناريو شمولية حلول المشكلات الفلسطينية الداخلية على الرغم من سمو مقصده، وهدف يتطلع إليه الكل الفلسطيني بل والعربي لطي صفحة الفوضى السياسية الفلسطينية غير الخلاقة، فإن تداعيات الحرب على غزة لا تحتمل ترف الوقت وتسجيل الانتصارات الحزبية، مما يعني أن التأخير في تشكيل حكومة فلسطينية واعدة كاملة الصلاحيات هو تقويض عودة السلطة إلى غزة بما يحمل من سيرورة للسلطة كأحد أهم الملامح السياسية المعبرة عن الموقف الفلسطيني في بناء دولته، ويضعها في موقف قوة في مواجهة الرفض الاسرائيلي لعودتها إلى غزة، على طريق تحطيم الاستراتيجية الاسرائيلية القائمة على تعزيز الانقسام الفلسطيني ووأد الكيانية الفلسطينية، هذا السيناريو يؤكد على أن جرائم حرب الإبادة لم تكن كافية لفك طلاسم الأَسْر الأيديولوجي والتحالفي للفصائل وخروجها من شرنقة الأنوية الحزبية، ولم تتوقف عن انتهاك دم الشهداء، ويؤكد استغراقها في الماضي، ولم تستوعب بعد المخاطر الوجودية للقضية الفلسطينية، والمنطقة العربية بأكملها، والتي تُعتبر القاعدة الأميركية المزمع انشاؤها أحد أهم افرازاتها.
الطريقة التي تجري حول مفاوضات إنهاء الحرب هي تجسيد لفلسفة تمثل شقي المعادلة، فإسرائيل تتمثل إرادتها بجيشها وألياتها العسكرية، ومن يديرون المعركة بالمغامرة بالشعب الفلسطيني واقتياده نحو المجهول، فاستمرار العمل بهذه المعادلة هو بمثابة ولادة متجددة للشيطان، لا يمكن القبول باستمرارها، فلا بد للرسمية الفلسطينية من إرادة سياسية حازمة تتجلى برفع البطاقة الحمراء في وجه الإملاءات الأميركية، والمبادرة بملاحقة مجرمي الحرب في كافة المؤسسات والمحاكم الدولية، والعمل على رفع تمثيل دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وبطاقة أخرى في وجه من يُعطل تشكيل حكومة تكنوقراط كاملة الصلاحيات تسمح بالحفاظ على ديمومة الشعب وبقائه على أرضه، وتمكينه من إرادته في اختيار ممثليه في إطار برلمان دولة فلسطين قبل أن يفوتها قطار التاريخ، فلا شرعية لأحد إلا للشعب، ففي هذه الحقبة السياسية البائسة من تاريخ نضال شعبنا، تخلى الشعب عن السؤال الممجوج من أطلق الرصاصة الأولى؟، فهو ينظر إلى من يترجل عن صهوة جواده ويطلق الرصاصة الفضية على الانقسام وأثاره المدمرة، ليرفع راية الوحدة والسلام المجتمعي والسياسي الداخلي، فيما يعانيه الشعب من ويلات وأوجاع أكثر من معرفة من هو الذي يجلب الأمن والسلام.