سري سمّور
أمد/ لا تغير أو لا جديد في طبيعة المشهد الذي نتحدث عنه ونكتب منذ شهور في قطاع غزة؛ اللهم إلا في ازدياد أعداد الشهداء والجرحى والمشردين، وعدد المباني والمربعات السكنية المدمرة، ومؤخرا دخول التجويع كسلاح لم يسبق لإسرائيل استخدامه على هذا النحو منذ تأسيسها.
كل هذا بالتزامن مع بطولات تحققها المقاومة الفلسطينية؛ بنصب الكمائن المحكمة للجنود والآليات وتكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر يعترف بجزء منها، وما يعترف به ليس بسيطا وما خفي أعظم!
عقيدة الردع وكيّ الوعي
تحقيق الردع في صفوف الأعداء المباشرين أو المحتملين، هو عقيدة إسرائيلية تتبناها كل مكونات الكيان العبري الأمنية والعسكرية والسياسية، وهي بمثابة نقطة إجماع، والخلاف حول تفصيلات أو مواقيت، لا حول الفكرة والمبدأ.
وقد نجحت إسرائيل بتحقيق حالة من الردع-ولو نسبيا- كانت تستمر فترات تزيد وتنقص، وحرصت المؤسسة الإسرائيلية على (تجديد) الردع كلما رأت ذلك ضروريا، وصولا إلى ما يسمى (كي الوعي) وهو مصطلح ينسب ابتكاره إلى رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السابق (موشيه يعلون الملقب ببوغي) ومع أن يعلون يعيش حالة كراهية واضحة مع نتنياهو، إلا أن هذه السياسة أو الهدف (كي الوعي) تجمع الرجلين وكل الطيف السياسي والأمني في إسرائيل.
وتحقيق كي الوعي يكون باستخدام قوة باطشة وسياسات عقاب جماعي واستهداف المدنيين في أرواحهم وأرزاقهم وحياتهم اليومية، بحيث ينحرف تفكير الشعب الواقع تحت الاحتلال، أي الشعب الفلسطيني، بعيدا عن هدف التحرر من الاحتلال، وتبلور قناعات جديدة تتوافق مع سياسات الاحتلال، واستبعاد فكرة المقاومة من حيث المبدأ.
إجمالا تقر إسرائيل أن نجاحها في كي وعي الفلسطينيين ظل محدودا، ولكنها لطالما تفاخرت وباستعراضية استفزازية بقدرتها على ردع دول وتنظيمات.
سياسة تطورت عبر عقود
لم تبن إسرائيل صورتها الأسطورية في نظر وحدات سياسية عربية رسمية أو غيرها، وصولا إلى قطاعات من الفلسطينيين، إلا بعد زمن طويل نسبيا، وبمساعدة ظروف دولية وإقليمية وبالتأكيد دعم غربي كامل؛ فحتى بعد تمكن الحركة الصهيونية من احتلال ثلثي أراضي فلسطين الانتدابية، وارتكاب المجازر وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين، وإعلان قيام دولة إسرائيل، ظل كل هذا في الوعي الجمعي العربي شيئا عابرا، وأنه مجرد سيطرة عصابة على قطعة أرض سرعان ما تتمكن (جيوش العرب المظفرة) من استردادها والقضاء على هذه العصابة.
هزيمة صادمة
فجاءت هزيمة حزيران 1967 صادمة للوعي العربي شعبيا ورسميا، وتحولت إسرائيل إلى أمر واقع في وعي النظم السياسية الحاكمة، ومع استمرار إسرائيل في شنّ الحروب والهجمات والغارات وعمليات الاغتيال زادت حالة الردع التي حرصت إسرائيل على تثبيتها بل تضخيمها.
فلسطينيا فوجئت إسرائيل بأن من العمود الفقري لنشطاء انتفاضة الحجارة أواخر 1987 هم الجيل الذي ولد بعد تمكنها من احتلال ما تبقى من أراضي فلسطين، وهزيمتها لجيوش مصر والأردن وسورية.
وهنا قررت المؤسسة الإسرائيلية استعادة أو خلق الردع لدى هذا الجيل؛ فانتهجت سياسة تكسير العظام بأمر مباشر من (رابين) وافتتحت معتقلات جديدة أشهرها (كتسيعوت) في صحراء النقب في ظروف قاسية.
جيل ما بعد أوسلو
لم يتحقق الردع كما أرادت سلطات الاحتلال، ولكن رضي عموم الفلسطينيين بمبدأ التسوية، فكان اتفاق أوسلو من ثمار تلك المرحلة.
وما لبثت الأوضاع أن انفجرت في خريف سنة 2000 باندلاع انتفاضة الأقصى، وبعد سنتين قررت إسرائيل أن تري الجيل الفلسطيني الذي كبر وترعرع بعد أوسلو أي بعد مرحلة انتفاضة الحجارة، قوة وسطوة جيشها، بل حتى كيّ وعي كل الفلسطينيين، فنفذت عملية السور الواقي وما تلاها من عمليات متجددة.
معادلة الردع والوعي والمقاومة
ما نتج عن كل تلك المراحل الصعبة من الصراع، هو فعلا وجود تيار أو مجموعة فلسطينية ترى ألا جدوى من مقاومة إسرائيل، خاصة باستخدام السلاح، وهناك من بلغ به الأمر مبلغا أسوأ بقناعته أن إسرائيل قدر لأرض فلسطين، وأن كل محاولات مقاومتها تجلب ما هو أسوأ مما سبقه.
وظلت هناك حالة مقاومة تشتد وتخبو، ولا تنطفئ، ولكنها أيضا ظلت تتحرك وفق قواعد اشتباك غير معلنة، وتعيش حالة انتظار تغيرات محلية أو إقليمية أو دولية، تتحرك وفقها، وحتى ذلك الحين ظلت تضرب الاحتلال ضربات مدروسة أو وفق إمكانياتها المتاحة وهي متواضعة طبعا.
وهذا ما جعل إسرائيل تعيش وتتحدث بزهو عن ردعها وتحييدها للمنظومة العسكرية العربية الرسمية التي خرجت فعليا من الصراع بعد 1973 وعن وجود خطر من(تنظيمات إرهابية) ولكنه ليس خطرا وجوديا وأنها عبر حروبها وعملياتها السرية تمكنت من ردع هذه التنظيمات وإشغالها بأمور أخرى غير مناجزة إسرائيل.
انهيار الردع وحالة وعي جديدة
عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، ضربت عقيدة وسياسة الردع الإسرائيلية في مقتل، وأثبتت أن إسرائيل بالغت في اعتقادها ببقاء حالة ردعها في المنطقة عموما وغزة خصوصا، والطموح إلى توسعة تلك الحالة.
وكان لا بد لاسترداد الردع من حرب، اعتبرتها حربا وجودية ومصيرية، وسعت إلى محو أحداث السابع من أكتوبر من الذاكرة الفلسطينية، ووضع صور المجازر والدمار مكانها.
ولكن ما تلا هجمات السابع من أكتوبر من قدرة المقاومة على الصمود والمناورة، وتوجيه الضربات القاتلة لضباط إسرائيل وجنودها، زاد الطين بلّه بالنسبة لإسرائيل.
ذلك لأنه تولّد وما زال وعي جديد لدى الجماهير الفلسطينية والعربية؛ يتمثل بقناعة تامة باستحالة التعايش مع من يقتل أطفالها ويجوّعهم، وأن إسرائيل بكل ما تمتلك من تفوّق تقني وقوة عسكرية طاغية، عجزت عن توقع الهجوم، وعن التصدي له إلا بعد ساعات طويلة، وتحطمت كل أساطيرها التي نسجتها عن نفسها، والتي ساهم بعض العرب في تأكيدها وزرعها في الوعي الجمعي-بقصد أو بدون قصد-مثل أسطورة القبة الحديدية والميركافاه وغيرها، أي أن هزيمة إسرائيل ممكنة وليست خيالا.
تدرك إسرائيل هذا جيدا؛ ولذا سعت إلى عقاب جماعي لأهل غزة، وتصعيد مضاعف في الضفة، وتصعيد ليس بسيطا في لبنان، ورأت أنها بالمجازر والتدمير، يمكن أن تسترد حالة الردع التي تمثّل أحد أركان بقائها.
لا حلّ إلا بالإبادة الشاملة!
لا يمكن لإسرائيل استعادة حالة الردع الذي لطالما حلمت أو تفاخرت به، أو حتى حققت بعضه نسبيا، لذا هي تمارس الإبادة الشاملة أو الجماعية، فنحن لسنا أمام (تآكل) الردع بل انهياره تماما.
ولكن هل سيظل المجال مفتوحا لإسرائيل كي تواصل عمليات الإبادة؟
سؤال إجابته عند أمة المليارين.