أ. د. محسن محمد صالح
أمد/ أعلن الرئيس الأمريكي بايدن في 7 آذار/ مارس 2024 عن مشروع لإنشاء رصيف في ميناء غزة لاستقبال “المساعدات الإنسانية”، وإيصالها للمحتاجين خصوصاً في شمال قطاع غزة؛ بحجة تسهيل وصول المساعدات وتسريع وتيرتها. وتأتي الفكرة في إطار تعزيز الممر البحري المقترح بين قبرص وغزة والذي تسهم في خطة عمله المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا وقبرص والإمارات؛ ويخضع للتحكّم الإسرائيلي الذي سيتولى تفتيش البضائع في قبرص وإعطاء الإذن بشحنها لغزة.
ومن المتوقع أن يستغرق وصول الجنود الأمريكان القادمين على متن “سفينة الدعم اللوجيستي LSV1” التي انطلقت من قاعدة لانغلي – يوستيس في الولايات المتحدة 30 يوماً، حيث تبعتها ثلاث سفن أخرى؛ وسيستغرق العمل في إنشاء الرصيف عند ميناء غزة 60 يوماً. وسيكون الرصيف قادراً بحسب التصريحات الأمريكية على توفير مليوني وجبة ومليوني زجاجة ماء يومياً.
اللافت للنظر هو الترحيب الإسرائيلي بإنشاء الرصيف، حيث ذكر وزير الحرب الإسرائيلي جالانت أن “الممر البحري سيعزز سيطرتنا، ويعزز قدراتنا على استمرار القتال بغزة” وأنه سيسهم في تقويض سلطة حماس. بينما كشفت صحيفة جيروساليم بوست الإسرائيلية أن بايدن إنما يطبق فكرة اقترحها نتنياهو في أول أسبوعين من الحرب!! بمعنى أن الرصيف سيكون أداة للتحكم والسيطرة الإسرائيلية الأمريكية لفرض رؤية “اليوم التالي” لقطاع غزة بعد الحرب.
بالطبع فإن الولايات المتحدة ليست “جمعية خيرية”، وهي الشريك الأساسي في العدوان على قطاع غزة، وهي المزود الرئيسي للاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة والمتفجرات المستخدمة في تدمير قطاع غزة وبناه التحتية، وفي قتل وجرح عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ. ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى كانون الثاني/ يناير 2024 أرسلت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 250 طائرة شحن وأكثر من 20 سفينة وسلمت أكثر من عشرة آلاف طن من الأسلحة والمعدات لـ”إسرائيل” بحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”. ومن القنابل التي استخدمها الاحتلال في عدوانه قنابل تزن الواحدة منها 2000 رطل (907 كيلوغرامات)، وتتسبب بإصابات بشرية في محيط 900 متر في منطقة تفجيرها وتحدث حفرة بعمق 12 متراً (نحو 4 طوابق) بحسب نيويورك تايمز في 21/12/2023؛ حيث ألقى الاحتلال المئات منها على أهل غزة!!
والولايات المتحدة هي التي تقف خلف استمرار العدوان وتوفر له الغطاء الدولي، وتستخدم حق النقض الفيتو، في وجه العالم الذي يجمع على وقفه؛ وهي التي تستخدم كافة أدواتها السياسية لتطويع البيئة العربية والإسلامية للسكوت على العدوان وللتعاون مع الاحتلال، وتهدّد أي أطراف تسعى لدعم قطاع غزة ومقاومته.
ومن الملاحظ أيضاً أن فكرة الممر البحري من قبرص تسهم فيه جهات متحالفة مع الكيان الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة كألمانيا وبريطانيا وإيطاليا إلى جانب الولايات المتحدة. ولذلك، تبدو فكرة تقديم “المساعدة الإنسانية” قريبة من فكرة أن السَّجان مضطر لتوفير حد أدنى من الغذاء للأسرى وللرهائن الذين لديه، إلى حين استكمال أهدافه؛ ولهذا، يبدو الرصيف غطاء “إنسانياً” مخادعاً وشكلياً لسلوك “وحشي” تتم ممارسته على الأرض.
ولو كانت الإدارة الأمريكية جادة في تقديم المساعدة الإنسانية، لكان يكفيها إعطاء الضوء الأخضر للحكومة المصرية، مع قليل من الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، لفتح معبر رفح لإدخال آلاف الشاحنات التي تنتظر الدخول عند المعبر، والتي توفر بشكل أسرع وأكبر وأكثر فعالية واستدامة احتياجات القطاع.
السلوك الإسرائيلي العدواني القذر كان يتعمد ألا تقوم أي جهة يثق بها أهل القطاع بتوزيع المساعدات والإشراف على دخول البضائع، فهو نفسه سبب المجاعة وهو نفسه الذي دمر البنية التحتية ونفذ مئات المجازر ودمر المستشفيات والمدارس، وهو نفسه الذي قصف قوافل الإغاثة وقتل من يحاولون تنظيم وصولها للناس. بل ونفذ بنفسه مجزرة قرب دوار النابلسي في 29 فبراير/ شباط 2024، فقتل 112 فلسطينياً جاؤوا لأخذ المساعدات.
وبشكل أساسي تقف خلف المشروع فكرة أن من “يُسيطر على إطعام الناس، يسيطر عليهم”!! وأن الناس مضطرون للتعامل معه شاؤوا أم أَبوا. ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي الذي تعمد إدخال قطاع غزة في حالة مجاعة قاسية مُفجعة، يريد أن يخرج منظومة إدارة الناس والإشراف على شؤون حياتهم من يد حماس والمقاومة إلى يده، أو إلى وكلاء يثق بهم ويشرف على تعيينهم. وكان ذلك سبباً أساسياً في تواصل الاحتلال مع قيادات عشائرية في القطاع لتولي المهمة، كخطوة في تشكيل إدارة بديلة للقطاع، غير أن هذه القيادات رفضت. والاحتلال ما زال يواصل جهوده وضغوطه في هذا المسار، حيث يتواصل مع قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله لتولي المهمة وفق شروطه؛ كما التقى بمسؤول المخابرات ماجد فرج لعمل تشكيلات أمنية بديلة لحماس.
وحتى تتحقق أهداف الاحتلال، فربما قام بنفسه بتولي مهمة توزيع المساعدات في شمال غزة، ليحاول إحداث حالة من تطبيع التواصل مع الناس، وربط مصالحهم به. وقد يحاول الاحتلال أيضاً تشجيع تشكيل مجموعات مسلحة بحجة حراسة المساعدات، لتتحول مع الزمن إلى مليشيات ومنظومات فساد ترتبط مصالحها به.
من ناحية أخرى، سيستخدم الاحتلال الإسرائيلي وجود الرصيف الأمريكي كذريعة للتهرب من تحمل المسؤولية الجنائية تجاه المجاعة والحصار ومعاناة أهل غزة، من خلال الادعاء أنه يسمح بتوفير الاحتياجات. وفي الوقت نفسه، سيوفر له وجود الرصيف بيئة أفضل لاستدامة احتلاله، كما سيوفر له ذريعة لإغلاق معبر رفح (بوجود هذا البديل) وبالتالي السير قدماً باتجاه حملته للهجوم العسكري على منطقة رفح ومحاولة السيطرة على المعبر، وعلى محور صلاح الدين (محور فيلادلفيا) الفاصل بين قطاع غزة ومصر.
ويبدو أن مجرد معرفة المدة الزمنية التي يحتاجها إقامة الرصيف وهي شهر للوصول إلى غزة وشهران لإقامته، أي ثلاثة أشهر (هذا قبل تقديم شربة ماء واحدة) مؤشر خطير لاستمرار العدوان، وعلى وجود نوايا مبيَّتة لإعادة تموضع الاحتلال واستدامته بدعم لوجيستي أمريكي؛ وأن الحديث عن وقف العدوان أو خروج الاحتلال ليس وارداً على الأقل في الأشهر الثلاث القادمة؛ وأن الغطاء الأمريكي للعدوان سيستمر لأشهر قادمة على الأقل.
ولعل الأمريكان يطمحون (إذا ما جرت الأمور كما يشتهون) أن يصبح الرصيف أساساً لقاعدة عسكرية أمريكية مستدامة في المنطقة، تلبي جانباً من احتياجاتهم اللوجستية في شرق البحر المتوسط.
وفي الوقت نفسه، سيسعى بايدن إلى محاولة تغطية توحشه بـ”طلاء إنساني” وتحسين صورته لدى الناخبين الأمريكان، وخصوصاً تلك الشرائح الواسعة المطالبة بوقف العدوان والجاليات العربية والإسلامية، التي قد تلعب دوراً مهماً وعنصراً مرجحاً في احتمالات فوزه أو خسارته.
وأخيراً، فمن الواضح أن الكيان الإسرائيلي وحلفاءه الأمريكان يقومون بمحاولة ترتيب الأوضاع لمستقبل غزة بقوة السلاح وبمحاولة إنشاء الحقائق على الأرض، بما في ذلك محاولة فصل شمال غزة عن جنوبها. غير أن محاولاتهم لا تعني أنهم سينجحون، كما أن محاولة إيجاد انطباعات وأوهام بقدرتهم على ذلك، لا يمكن أن تنطلي على المقاومة. ثم إن المقاومة التي أثخنت فيهم وأنهكتهم في “مستنقع غزة” طوال الأشهر الماضية قادرة بإذن الله على إفشال مخططاتهم ودحرهم وإنهاء احتلالهم.