د. أحمد يوسف
أمد/ عندما تقع الحروب وتُهدد الشعوبَ والأممَ كارثةٌ وطنية تكثر التساؤلات وعلامات الاستفهام: من هو المتسبب بها؟ ومن الذي بيده مفتاح الخلاص وطوق النجاة؟ وكما جرت العادة، سيتهرب الكثيرون من المسؤولية، ولكن هناك من سيتجاوز الجدل المتعلق بحالة “كبش الفداء”، آخذاً على عاتقيه تبعات المرحلة بكلِّ أثقالها، وتتصدر فروسيته حدود السيف والجواد.
لقد اعتدنا القول: الإنسان موقف، وعند الشدائد تظهر معادن الرجال وأصالة الانتماء للدين والوطن.. ففي ملاحم السياسة يصنع القائد زعامته من خلال قدراته على بناء مستقبل الشعب والأمة.
اليوم؛ ونحن نتابع مجريات الحرب على قطاع غزة في شهرها السادس، لم نرَ -للأسف- للقيادة الرسمية أيَّ حضورٍ ملموسٍ في المشهدين السياسي والإنساني والعسكري، في الوقت الذي يتعرض فيه القطاع -من شماله إلى جنوبه- إلى “إبادة جماعية”، فيما الضفة الغربية هي الأخرى يجري استهدافها بسلسلة من الاقتحامات والقتل والتدمير الممنهج من قبل الجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين، ويتمُّ كلُّ ذلك على سياق “سيمفونية الموت”، التي يُدندن بها نتنياهو وسموتريش؛ باعتبار أنَّ الحرب في قطاع غزة هي “حرب الاستقلال الثانية”، وأنَّ ما يجري هو ملحمة إسرائيلية لـ”حسم الصراع” في الضفة الغربية، عبر سياسة توسيع الاستيطان والدفع باتجاه تهجير السكان إلى الأردن من ناحية، واستعادة مستوطنات القطاع من ناحية أخرى!!
وإذا ما أخذنا بالرأي الذي يدعونا إلى إحسان الظن، فإننا بانتظار أن يكون للرئيس عباس (أبو مازن) أكثر من موقف أو خطاب لشدِّ أزر النازحين في قطاع غزة، إلا أنَّ الشعور بالإحباط والخيبة والخذلان من مواقف القيادة السياسية الرسمية كان وما زال سيد الموقف، وكأن مشاهد “الإبادة الجماعية” التي تدور رحاها في مدن وقرى قطاع غزة تجري في بلد آخر، لا يُحرِّك سواكنه ولا يعنيه!! لذا؛ فإن غيابه عن التفاعل والحضور -في التقييم الفلسطيني العام- هو بمثابة ذنبٍ لا ينمحي، وخطيئةٍ لا تُغتفر، ولا تؤهله مستقبلاً صلاحيةَ البقاء في سدَّة الحكم، إذا ما وضعت الحرب أوزارها، وتحركت جماهير شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة لاختيار من يقود جموعها، ومن سيكون بيديه إمساك الخطام لرسم ملامح ما هو قادم في مشهد الحكم والسياسة.
في مقابل هذا الغياب الفاضح للرسميِّة الفلسطينية، كان هناك من يفرض حضوراً جسوراً لتغطية هذا الغياب في مشهد الفعل والزعامة الوطنية، ويتحرك من منفاه البعيد بإطلالات إعلامية، منتقداً نتنياهو وسياسته العدوانية، التي اتخذت طابع “الإبادة الجماعية” على قطاع غزة، والتحدث بقوة عن حق شعبنا الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وأنَّ الذي جرى في السابع من أكتوبر تتحمل مسؤوليته إسرائيل أيضاً، وأنه كان رداً -يمكن تفهمه- على السياسات المتطرفة والتهديدات التي يطلقها قادة اليمين الديني والمتصهين وغلاة المستوطنين حول الحسم والتهجير، مع ما يتراكم في النفوس من شعورٍ متزايدٍ بالقهر والاحباط، جراء الحصار المستمر لأكثر من عقد ونصف العقد على قطاع غزة، إضافة إلى الاقتحامات المتكررة والانتهاكات المتعمدة لقدسيِّة المسجد الأقصى، مع عدمية وجود أيِّة حلول سياسية تلوح بوارقها في الأفق.
إنَّ كلَّ هذه المظاهر من المظلوميِّة وانعدام الأمان وفرص الاستقرار السياسي، هي من ساقت لكلِّ ما وقع في السابع من أكتوبر، والذي اعتبره البعض “انتحاراً” أو خطوة عنيفة لكسر عنق الزجاجة، هدفها التحرر مما قدرته المقاومة بالضغوط القاهرة التي لا بدَّ من إزالتها وحتميِّة التخلص منها.
في الحسابات النضالية لمسيرة الثورة الفلسطينية، كان ياسر عرفات (رحمه الله) قائداً وزعيماً وطنياً، وقد أنجز في محطات حياته كزعيم سياسي ما يمكن لشعبه أن يتذكره دائماً كأحد أيقونات نضاله الوطني، فالمواقف هي من تصنع الرجال، وترسِّخ أسماءهم في سجل الخالدين.
اليوم؛ وفي معادلة الصراع والمواجهة مع المحتل الإسرائيلي الغاصب، وبعد عملية السابع من أكتوبر البطولية، سيذكر التاريخ أنَّ ما وقع من حرب كانت تداعياتها -لا شك- كارثية على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، وأنَّ ما آلت إليها الأمور هو بحاجةٍ إلى قيادة لديها الوعي والحكمة وكاريزما الزعيم، لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالتايتنك الفلسطيني -وحتى اللحظة- بلا قبطان، وإن كانت مواقف البعض وحركيتهم في السياقين السياسي والإغاثي، تؤهلهم عن جدارة لتوسد مشهد الزعامة القادمة.
إنَّ قراءات اللحظة بكلِّ ما فيها من تحليلات لمشاهد الكارثة والبطولة، تشي بأنَّ هناك صفحاتٍ حيَّة من التحرك والعطاء لبعض الشخصيات الاستثنائية التي استطاعت رسم إحداثيات ريادتها، ولا يمكن بحالٍ غمط جهودها، بل إنَّ متطلبات الأمانة تفرض تجلية مواقفها، والتحدث بإسهابٍ عنها.
نعم؛ هناك نزاعات وخصومات وتباينات رأيٍّ داخل المشهد السياسي الفلسطيني، ولكن برغم كلِّ ذلك فإنَّ العدل والإنصاف يقتضي تجاوز حالة “الشنآن الفصائلي”، وإعطاء كلّ ذي حقٍ حقه، إذ أنَّ هناك من سجَّل بسيرته ومواقفه حضوراً وطنياً ملحوظاً، وكانت أسهمه وافرهً في عطاءات الحراك الإنساني لإغاثة النازحين، وكان لحضورهم السياسي وجينات المخيم مشهداً لا يمكن لعين البصير أن تُخطئه، حتى وإن كانت بعض الوقائع تدور تفاصيل جلساتها خِلسةً خلف الكواليس، في إطار البحث عن مخرج يُنهي المواجهة العسكرية غير المتكافئة، ويُعجِّل بوقف الحرب وتداعيات أوزارها.
لا شك أنَّ قدرات إسرائيل الضاربة أكبر بكثير من إمكانياتنا القتالية كحركات مقاومة، وإن كان لدينا “محاربون أشداء”، ولكنَّ الكفَّة في الميدان تعمل في النهاية لصالح التفوق العسكري، وخاصة إذا ما طال زمن المعركة وغاب عنَّا المدد، وهدير عمقنا العربي ورديفه الإسلامي.
في المشهد الفلسطيني، هناك بعض القادة ممن بإمكانهم أن يلعبوا دوراً تاريخياً في استنقاذ الحالة السياسية، فهناك -مثلاً- د. موسى أبو مرزوق والنائب محمد دحلان كشخصيتين متميزتين بقدرات فكرية ونضالية ورؤى إستراتيجية، وسلوكيات رجال الدولة، مع مساحة لا بأس بها من العلاقات الإقليمية والدولية، التي لها مكانتها واحترمها في إطار الرؤية السياسية الواقعية لما يمكن أن ينتهي إليه مشهد الصراع الممتد لأكثر من سبعة عقود، تلطخت صفحاتها بمشاهد الدم والدمار وصور الإبادة الجماعية التي تنخلع معها القلوب.
اليوم؛ في مشهد الحراك القائم، ومحاولة إيجاد مخرجٍ لوقف الحرب، وترميم الحالة الإنسانية المأساوية في قطاع غزة، فإنَّ هناك في مربع الإمكانيات والتواصل الإقليمي والإعلامي القائد محمد دحلان، الذي أخذ على عاتقه التحرك في سياق ما تفرضه الضرورة الوطنية والإنسانية على جبهتين: الأول؛ مجال العمل الإغاثي، والذي تبدو فيه جهوده واضحة إلى الحدِّ الذي لا يمكن تجاهله، وتقف وراء دعمه في هذا المنحى -بشكل أساس- دولة الإمارات. وهناك ثانياً؛ جبهة التحركات السياسية المُكمِّلة لتلك الجهود الإنسانية، وهي تحركات من حيث جدارتها تمنحه التصدر – اليوم أو غداً- لمشهد الزعامة القادمة.
للأسف؛ تبدو السطلة والرئيس أبو مازن حالة ميؤوس منها، وهي أشبه بوضعيه هزلية لمسرحية “شاهد مشفش حاجة” أو الرجل الذي فقد ظله، فأصبح “غايب فيله”، وذلك لاعتبارات الشيخوخة المتقدمة وبطانة السوء التي تجالسه، إذ ليس له ذلك الحضور والذكر الحسن في المشهد الإنساني الفلسطيني العام، كما أنَّ تحركاته في المشهد السياسي المضطرب لا تتمتع بمنسوب وطني عالٍ، ولم تحظَ مبادراته -على قلتها أو تواضعها- بما يجعلنا نشعر بالأمن والاطمئنان.
في الحقيقة، هناك رغبة وطنية لإحياء منظمة التحرير كإطار جامع للكلِّ الفلسطيني، ولكن -للأسف- لا يبدو أنَّ لدى السلطة الحماس الكافي للقيام بذلك، وهي تحاول التهرب من أيِّ استحقاق يمكن أن يجمعها داخل منظمة التحرير مع شركاء الوطن من السياسيين كحركة حماس والجهاد الإسلامي والتيار الإصلاحي الديمقراطي، وهو سلوك سيجعل الفلسطينيين في نظر أمتهم والعالم مجرد “شركاءٌ متشاكسون وشرذمةٌ قليلون”!!
ولذلك، فإنَّ تحركات دحلان -اليوم- تحظى بالكثير من الشرعية الوطنية والأخلاقية، ومن ردَّات الفعل الإيجابية داخل مخيمات النازحين؛ لأنَّ هناك في تعبيرات المشهد الإنساني الخاص بالأخ محمد دحلان (أبو فادي) ما يمكن تلخيصه بكلمة مختصرة: الرجل الذي أثبت أنَّ “فعله يسبق قوله”.
دحلان اليوم؛ هو شخصية وطنية بامتياز، وتتمتع مواقفه ذات الرؤية الوطنية المتعلقة بإعادة إعمار ما تمَّ تدميره، بالاستجابة، من خلال علاقاته العربية والدولية الواسعة، وشعبيته التي أخذت تحط رحالها في المربع الوطني الذي يمثله، وقدراته كذلك في الانفتاح على حركة حماس؛ التيار الأوسع انتشاراً فلسطينياً، والذي نجح دحلان عبر الكثير من الجسور والأنفاق السياسية في خلق تفاهمات متقدمة معه، ويمكن التعويل عليها في بناء ثقافة قوامها “الوحدة من خلال التعدد”، والتمكين من رسم معالم رؤية مشتركة لكيفية إدارة الصراع مع إسرائيل من ناحية، وكسب التعاطف الدولي لصالح القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
دحلان اليوم، وفي إطار الرؤية التي يحملها لحلِّ الصراع، والتي يشاركه فيها الكثير من الفلسطينيين والمفكرين الإسلاميين وأنا منهم، والتي تتمحور في جوهرها حول مفهوم الدولة الواحدة (ثنائية القومية)؛ باعتبارها الأقرب لمشهدية التعايش التاريخي بين الشعبين على أرض فلسطين، والتي يمكن تجسيدها -اليوم- على شكل كونفدرالية جامعة في إطار الأرض المقدسة التي باركها الله للعالمين.
إنَّ هذه الحرب ستنتهي -اليوم أو غداً- بفشل إسرائيلي في تحقيق ما رفعه نتنياهو من شعارات، وستمنح الفلسطينيين فرصةً أفضل كضحية لا يمكن للعالم أن يظلَّ متجاهلاً لحقوقها أو الصمت على سياسيات إسرائيل في ممارسة “الإبادة الجماعية” تجاه سكانها الأصليين من الفلسطينيين.
وعلى المستوى الشخصي وما توفر لي من رؤية، من خلال الحوارات واللقاءات مع الأخ محمد دحلان، فإنني أشعر بالتفاؤل في قيادته وحُسن إدارته لشراكة وطنية بين الكلِّ الفلسطيني بما في ذلك حركتي حماس والجهاد الإسلامي؛ باعتبارهما حليفين سياسيين تجمعهما المواقف والشراكات وليس الخصومة والعداوات.
إنَّ دحلان -اليوم- ليس متخفياً أو متغيباً عن مشهدية ما يحدث لأبناء شعبه من إبادة جماعية بانتظار انفضاض المولد، للظهور في ثوب المُخلِّص لأخذ نصيبه من المُلك، فهو في قلب كلِّ ما يجري الحاضر القريب، وليس ممن امتهنوا الغياب إذا ما حمي الوطيس.
ختاماً.. إنَّ دحلان -اليوم- ليس لاعباً احتياطياً على دكَّة البُدلاء، بل هو “ليونيل ميسِّي” بوصلة الفريق وصانع الألعاب، والذي على ركلاته تتحدد النتيجة وعدد الأهداف.
باختصار.. إنَّ دحلان -اليوم- هو شخصية وطنية بامتياز، عركتها التجارب وتسكنها أصالة أبناء المخيم ومشاعرهم الوطنية والنضالية الصادقة.. وبالرغم من الخصومة التي صاحبت فترة التنافس والصراع على السلطة، ومحاولات كلّ طرفٍ من فتح وحماس الاستحواذ عليها بالقوة، إلا أنَّ تلك مرحلة من الماضي قد تجاوزناها بالتغافر وأخلاقيات “عفى الله عما سلف”، وأنَّ الكارثة التي لحقت بالوطن تتطلب إجماعاً وطنياً حول الشخصية السياسية التي يمكنها “اللعب بالبيضة والحجر”، ويمكن للغرب التعامل معها والقبول بزعامتها.
إنَّ دحلان -اليوم- هو الأوفر حظاً في قيادة المرحلة وجمع الشمل، وعلى وقع تحركاته وجهوده وانفتاحه الواسع فلسطينياً وإقليمياً ودولياً يمكن أن تنعقد مآلات مستقبلنا، وكلّ ما ينتظرنا كشعب وقضية.. وإنَّ غداً لناظره قريب.