د.مازري الحداد
أمد/ قال الشهير ريموند آرون: “لقد فازت إسرائيل دائمًا بالحروب وخسرت السلام”. لم يخطئ الرجل: فعبر الذي ساهم في العديد من الحروب، إسحاق رابين، كادت إسرائيل أن تغتنم السلام. لقد اغتيل ومع اختفائه تبخر الأمل في السلام الدائم. ولكن عاجلاً أم آجلاً، عندما تصمت المدافع ويتوقف نزيف دماء الفلسطينيين عن التدفق، عبر إرادة الله أو ضد أرادة البعض، فإن مصير الشعب العبري سوف يتقاطع مرة أخرى مع إرادة نبي «.
بهذه المقولة أنهيت مقالتي التي نشرت في صحيفة لوموند بتاريخ 12 يناير 2009 تحت عنوان غزة وخيانة النخبة المثقفة. وكان الفلسطينيون في غزة المعزولة عن العالم آنذاك تحت قصف سلاح الجو الإسرائيلي ونيران القوات البرية. ووفقاً لتحقيق أجرته منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية غير الحكومية، خلفت عملية «الرصاص المصبوب» ما يقرب من 1400 قتيلاً، معظمهم من المدنيين. وفي ذلك الوقت، قدم القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدستون، المفوض من الأمم المتحدة، تقريراً يدين الدولة العبرية وخلص إلى أن الجيش الإسرائيلي تصرف «بتجاهل حياة المدنيين» و«استخدام المفرط للقوة» وارتكب «جرائم حرب» بل ترقى حتى إلى «جرائم ضد الإنسانية». وقد ندد جيمي كارتر، مهندس اتفاقيات كامب ديفيد، عقب زيارته لغزة في يونيو 2009، بدوره بالحصار الذي تفرضه إسرائيل وبلامبالاة المجتمع الدولي، معتقدًا أن الفلسطينيين يعاملون «كالحيوانات».
مناهض للصهيونية إذا أنت معادي للسامية
إن انتقاد إسرائيل في عام 2009، بسبب أفعالها، يجعلك بالفعل موضع شك تجاه حركة حماس – وبالتالي في منطق الغرب تجاه الإرهاب – أو متعاطف على الأقل مع هذه الحركة التي ولدت على أنقاض منظمة التحرير الفلسطينية وتحت الخبث والدهاء المكيافيلي الصهيوني، ثم من خلال الدعم السياسي والمالي من بعض الدول العربية. بيد أن اليوم قد أصبح الأمر أسوأ: سواء كنت فنانًا، أو محاميًا، أو لاعب كرة قدم، أو صحفيًا، أو مثقفًا، أو عضوًا في البرلمان، أو زعيم حزب، أو وزيرًا، أو حتى الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، إذا استنكرت الجرائم الشنيعة التي ترتكبها حكومة نتنياهو المتطرفة والمرتكبة للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، فأنت لست مشتبهًا به فحسب، بل أنت مذنب أيضًا. وما هو ذنبك؟ معاداة الصهيونية، وبالتالي معاداة السامية! خلط مفتعل بين مصطلحان اتُهم الجنرال ديجول بهما بعد تصريحه الشهير عن اليهود سنة 1967. وهذا هو الى حد اليوم سلاح الدمار الشامل والردع الهائل الذي تمتلكه إسرائيل وقنواتها الدبلوماسية والإعلامية في جميع أنحاء العالم. فها هو الدرع «الأخلاقي» والغطاء الرمزي المغذي لعقدة الذنب الغربية تجاه اليهود والذي يجيز للدولة الصهيونية أن ترتكب أبشع المجازر بلا حساب، ويسمح لمتعصبيها في الغرب بتبرير أبشع الجرائم دون اعتراض أو رد.
قال ألبير كامو:» في لحظة المأساة، نعتاد على الحقيقة، أي على الصمت «. ووفقاً لتوصية موريس ميترلينك، «إذا لم يكن من المؤكد أن يتم فهم الحقيقة التي ستقولها، فالتزم الصمت». استسلمت لنحو خمسة أشهر تقريبًا، لهذه النصيحة الحكيمة، ولكن الآن وبعد أن وصلت مذبحة الفلسطينيين إلى حد لا يطاق، ويعتزم اليمين المتطرف الإسرائيلي، المتبنين «إسرائيل الكبرى»، التوغل في الرعب والتجويع والقتل والاستئصال والتوسع إلى أبعد من ذلك، بدعم مالي وعسكري من الولايات المتحدة الامريكية، لم يعد الصمت دليل للحقيقة، بل كفنها. فإن الصمت أو الحياد في وجه الظلم والاستبداد لا يعني التغاضي عن الظالم وتبرئته فحسب، بل هو اغتيال المظلوم مرة ثانية.
لم يعتقد جيمي كارتر حينما قال في تلك الفترة مقولته الصائبة والدقيقة أنها ستخلد وستصف الحاضر أيضاً. فبعد مرور أربعة عشر عاماً، ها هو وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، هو الذي ألقى هذا الخطاب اللاإنساني المروع: «نحن نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة. فلا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود. كل شيء مغلق. نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقًا لذلك.»! هذا ما يسمى بالجريمة الجماعية، بل حتى الإبادة الجماعية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة لعام 1948، وتحديدا «نية تدمير جماعة في حد ذاتها».
وبعد مبادرة افريقيا الجنوبية التي سوف يخلدها التاريخ قضت محكمة العدل الدولية، التي قدرت عدد المدنيين الذين قتلوا بأكثر من 26 ألف شخص، بأن أفعال إسرائيل وآثامها في هجومها على غزة تقع ضمن نطاق اتفاقية الإبادة الجماعية، وفي أمرها الصادر في 26 يناير الماضي. اعترفت بأن اتهامات الإبادة الجماعية “معقولة” وأصدرت أمراً لإسرائيل «بالتوقف عن قتل الفلسطينيين، الذين تعتبرهم مجموعة محمية». أما بالنسبة للحجة القائلة بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، فقد قال أستاذ القانون الدولي البارز سيرج سور: «إذا اعتبرتم بأنها أرضاً محتلة، مثل الضفة الغربية، فلا يمكن التذرع بالدفاع المشروع ولا يمكن استهداف غير المقاتلين. إنه نظام الأراضي المحتلة، الذي حددته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والذي ينطبق… لديكم الحق في تحييد المقاتلين، والقضاء عليهم. لكن غير المقاتلين يجب ألا تلمسوهم. وهذا المبدأ واضح وغير قابل للجدل وملزم للتنفيذ» (لوموند، 28 نوفمبر 2023). ملزم للتنفيذ بالتأكيد، ولكن ليس بالنسبة لدولة إسرائيل المقدسة، التي تحتقر الشرعية الدولية وبشكل خاص القانون الإنساني الدولي الذي بموجبه يحدد رد الدولة مع نسبية الأضرار.
ليس هنالك موت أشنع من الموت قبل الموت
1400 شهيد في عام 2009، واليوم تجاوزنا 30 ألف شهيد، 80% منهم من النساء والأطفال. وهذا العدد المروع – الذي يصفه البعض بالمصطلح الساخر والناكر «بحسب وزارة الصحة في غزة» – لا يشمل الجثث التي تركت تحت الأنقاض، ولا أولئك الذين ماتوا بسبب نقص الرعاية والدواء، ولا الذين سيموتون جائعا.. ليس هناك موت أسوأ من الموت قبل الموت. غزة سجن في الهواء الطلق، كما أطلق عليها في ذلك الوقت ستيفان هيسيل، لكنها اليوم وبعد خمسة أشهر أصبحت مقبرة جماعية. فهل نستطيع أن نصف مثل هذه المذبحة بأنها ضحايا جانبية دون تجريد أنفسنا من أهليتها الأخلاقية؟ هل يمكننا التذرع بـ «الدفاع عن النفس» حتى لو كان ذلك يعني ارتكاب أسوأ الجرائم الجماعية، بما في ذلك الإبادة الجماعية؟ ثمة فرق شاسع بين الحماية والمعاقبة، وبين مطاردة مسلحي حماس وذبح سكان غزة، والواضح إن نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لا يدركان الفارق، ولا الحدود الأخلاقية، ولا المتطلبات القانونية، ولا القوانين الدولية ولا حتى الاهداف العسكرية المزعومة لأنها تضع حياة الرهائن في خطر.
سواء أكان ذلك الحدث فردياً أو جماعياً، سواء ارتكبته ما تسمى بجماعة بربرية وإرهابية أو ما تسمى بدولة متحضرة وديمقراطية، فإن الشر يظل شرًا والخير يظل خيرًا، وعلاوة عن الخير والشر، ثمة البشر. سواء أكان يهوديا أم فلسطينيًا أم توتسيا أو أرمنيا أو روهنجيا…، فإن قدسية حياة الإنسان هي قيمة عليا تعترف بها جميع الأديان، وتزين جميع الفلسفات، والمواثيق، بل هي أيضاً مبدأ أساسي في جميع الدساتير، بما في ذلك في البلدان التي تُداس فيها أبسط حقوق الإنسان. وأخيرا، إنها معيارية قانونية عليا في القانون الدولي وليس فقط في القانون الإنساني. إن ضميرنا وإنسانيتنا تلزمنا المعاناة من أجل جميع الأبرياء الذين قُتلوا ظلماً ووحشية. عملية حماس ضد المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر كانت مؤلمة. ولكن هل هذا مبرر لعقاب جماعي تجاه سكان غزة المعزولين؟ ولقد قالها الرئيس الاشتراكي إسحق هرتسوج، الشهير «باعتداله»، حينما صرح أن «هناك أمة بأكملها هي المسؤولة»، فيما صرخ يوآف جالانت قائلاً: «سوف نزيل كل شيء».
ناتنياهو يخشى الحياة بعد السلطة أكثر مما يخشى الحياة بعد الموت
عملية حماس وخاصة ردة فعل اسرائيل ثمنها رهيب وفادح من حيث أرواح الفلسطينيين والإسرائيليين التي تم التضحية بهم على مذبح الميكافيللية السياسية لكليهما. المكيافيلية الانتخابية لنتنياهو الذي يخشى أقل بكثير الحياة بعد الموت من الحياة بعد السلطة. وثمة ميكافيلية إسلامية في المشهد السياسي أيضاً، لأنه لا يمكن لأحد أن ينكر بأن أحداث السابع من أكتوبر، وخاصة غطرسة رد الفعل الإسرائيلي، قد أعادت إلى الأجندة الاقليمية والعالمية القضية الفلسطينية التي اعتقد البعض أنها دفنت مع الاتفاقيات الإبراهيمية، والتي أصبحت الدول الموقعة عليها الآن في حالة لا يحسد عليها. مكيافيللية، لأن السلطة الفلسطينية الحالية، في نظر الرأي العام العربي، تجسد التعاون والتواطؤ مع اسرائيل، وحماس ترمز إلى المقاومة والشهامة. مكيافيلية، لأن إسرائيل قد خسرت الحرب الأخلاقية، وخسرت، في سابقة أولى منذ ولادتها، حرب الرأي العام الدولي بما فيه الرأي الاميركي. منذ سنوات عزلت اسرائيل غزة عن العالم وها هي الأن هي المعزولة. انتهت أسطورة ديفيد ضد جالوت لأنا الحقيقة التاريخية فرضت نفسها الا وهو أن اسرائيل دولة استعمارية. فمقاومة الاستعمار حق مكتسب تضمنه كل الدساتير بما فيهم إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 ومنذ انهاء الاستعمار يكرس القانون الدولي حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولكن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وكل ادانات المجموعة الاممية لإسرائيل منذ أكثر من نصف قرن يسخر منها ناتنياهو ومن حوله من متطرفين واستئصاليين. أولئك الذين لا يؤمنون الى بما أنزله كتابهم التوراة حينما يحرض ربهم على «محو ذكر عماليق تماما من الوجود وهذا يشمل الرجال والنساء والاطفال والرضع والماشية…» (سفر التثية الإصحاح 19 ، 25 ).
لقد حصل الضرر، والقادم أسوأ وهو ما يخشى منه، لأن ريموند آرون تساءل يوم: «ما هو أكثر ما يخشاه كل إسرائيلي؟ الفساد الروحي للأمة من خلال التوسع» (لو فيجاروا، 29 أغسطس 1967). وقال أيضًا إن «ما يقوله اليهود للإنسانية لن يُترجم أبدًا بلغة الأسلحة». وأخيرًا، علَّم أنه «في مواجهة إفساد الفكرة الإسرائيلية من قبل الصهيونية نفسها، فإن المهمة السياسية والروحية لليهود في العالم هي تذكير إسرائيل بالوعد اليهودي، أي بالسلام ليس فقط مع الدول العربية، بل وخاصة للسلام المستحق للفلسطينيين». سلام يبنى على الحق والعدالة وقدسية الذات البشرية.