محمد المحسن
أمد/ – صار الفساد حالة عامة،يأتيه المهرب والسياسي ورجل الأعمال تكديسا للثروة،ويأتيه الفقير إشباعا لرغبة،ويأتيه غيرهما لؤما ونذالة..(الكاتب)
– السرقة ظاهرة حقيقية موجودة في حياة الإنسان، وليست وقفا على الأشياء المادية المحسوسة المحيطة به، فهي تمتد إلى الحقل العلمي والفكري والأدبي والفني..(الكاتب)
قد لا أبالغ اذا قلت أن لولا «النقد» في الصحف،لظللنا الى اليوم نجهل مؤلف الرواية الرائدة «زينب»، فقد وقعها صاحبها آنذاك باسم «مصري فلاح» لأنه كان يخشى على مركزه الاجتماعي كمحام ينتمي الى الأرستقراطية من ذيوع الخبر المثير، وهو أنه كتب «رواية أدبية»..هكذا ظهرت رواية هيكل الأولى مجهولة المؤلف،ثم جاء استقبال النقد لها مشجعا الناس على قبول هذه «العجيبة» ومشجعا للكاتب أن يظهر «وعليه الأمان» كما يقال. كذلك لولا استقبال طه حسين لمسرحية «أهل الكهف» الرائدة لتوفيق الحكيم، لظل مفهوم المسرح كما كان هو العرض الغنائي التمثيلي لا «أدبا محترما» كما جرأ طه حسين أن يصف عمل الحكيم، ثم «النقد» الشجاع الذي وجهه العقاد لأمير الشعراء أحمد شوقي،وما أثاره في ذلك الحين (1921) من قلب للمقاييس وانقلاب في الموازين، مقاييس الشعر وموازين البناء، وإنما نحن في عصر اللهاث وراء لقمة الخبز بأسهل الطرق، عصر التعليقات السريعة على كتاب يعيدون ما كتب على ظهر غلافه بصيغ اخرى،أو مسرحية تتفوق فيها الممثلة على نفسها،أو فيلم ينتهي بسهرة ممتعة مع نجومه، أو كذلك وهذا هو المؤلم نص ابداعي تثار من حوله الزوابع وتتناسل بسببه التهم حاملة في ثناياها عناوين مؤسفة: سطو أدبي أو «لصوصية أدبية» الامر الذي يضيف الى ركودنا الفكري وافلاسنا الثقافي ما لا قدرة لنا على تحمله.. والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع: هل تردت أوضاعنا الفكرية والأدبية وسقط بالتالي خطابنا الابداعي في وهاد الترجرج والانحطاط الى درجة أصبحنا فيها «غزاة مدينتنا» نكيل لبعضنا التهم ونتراشق بالألفاظ، هذا في الوقت الذي يتنافس فيه «الغرب المتقدم»على احتضان مبدعية والاحتفاء بما أفرزته قريحتهم الابداعية بجهد غير ملول، وترشيح كبار مبدعين للفوز بنوبل العظيمة؟..
هل شحت ينابيع الابداع في ربوعنا وكلت أقلامنا وعجزت بالتالي على الخلق والابتكار وأصبح الواحد منا «ينهش لحم أخيه» و«يسطو» دون خجل أو وجل،على ابداعه وعصارة قريحته وكل ما «بناه» ابداعيا» بحبر الروح ودم القصيدة؟..
قد لا أحيد عن جادة الصواب اذا قلت أن المشهد الابداعي ببلادنا ما فتئ يتغلب فيه الفتق على الرتق بعد أن غصّ حد التخمة بأقلام تتحسس بالكاد دربها الى الابداع وتلهث متبعة خلف «الأضواء»!..
ولا عجب في ذلك طالما أن الواحد منا بامكانه أن يتحول بقدرة قادر الى شاعر فذ تشد له الرحال،بمجردة قصيدة يكتبها وهو يتثاءب وتتلاقفها لاحقا «أقلام» النقاد لتصنفها ضمن «الابداع العجيب»..
قلت هذا،وأنا أقرأ ما تكتبه بعض الصحف حول «اللصوصية الأدبية» ببلادنا،ولكأن هذه الظاهرة المرضية استفحل داؤها وغدونا عاجزين على استئصالها وأمست بالتالي مرضا عضالا لا فكاك منه..!
على أية حال،كان بامكان كتابنا الأفذاذ الانصراف الى ما ينفع الساحة الثقافية عن ابداع خلاق تخاض به كبقية الأمم معركة الوجود والنهضة من الركود والترجرج،وأعني معركة درء التخلف،أفضل بكثير من خوض معارك جانبية لا تعبر في جوهرها عن الاختلاف الأدبي،ولا عما يضطرم به باطن المشهد الأدبي الابداعي من تناقضات،هي بالأساس ظاهرة صحية في عالم ممزق النفس والجسم..
قلت هذا،وأنا أتحسر على ما تشهده ساحتنا الثقافية بين الحين والآخر من اتهامات متبادلة بين بعض المبدعين..
من ذلك مثلا سطو فتاة مصرية على رواية “العراء” للكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان وإعادة نشرها في القاهرة منسوبة إليها.أو إقدام باحث مغربي على نشر دراسة نقلها عن مقال كان نشره الجامعي التونسي محمود الهميسي بمجلة “الموقف الأدبي” بدمشق عام 1996،دون أن يذكر المصدر.
والحق أن هذه الممارسات سمة من سمات المرحلة،فقد صار الفساد حالة عامة،يأتيه المهرب والسياسي ورجل الأعمال تكديسا للثروة،ويأتيه الفقير إشباعا لرغبة،ويأتيه غيرهما لؤما ونذالة.
قد يكون مثال الفتاة المصرية تعبيرا عن رغبة في تسجيل حضور لا تملك مؤهلاته،ولكن ما يأتيه الأكاديميون هو سقوط أخلاقي،لأن سرقة الرسائل العلمية تحولت إلى ظاهرة،بدأت بسرقة فصول وأبحاث ثم انتهت إلى سرقة كتب بأكملها،تحت إشراف عصابات منظمة تشتري ذمم بعض الأكاديميين.
السرقات الفكرية..
وفي السنوات الأخيرة كثُرالحديثُ عن السرقات الفكرية مع توجيه أصابع الاتهام أحياناً إلى أكبر رجال العلم والفكر والأدب والفن. وارتفعت أصواتٌ من خلف أقفاص الاتهام مندّدة بهذه التهم. ذهب بعضها،من أمثال الروائي واسيني الأعرج، إلى وصفها «بالإرهاب» الذي يستهدف الأعمال الناجحة والفائزة بجوائز والحاصلة على اعترافات نقدية مميزة..فلمَ يا تُرى كل هذا الحديث عن الانتحال؟ وهل يقتصر على الوطن العربي دون أمم أخرى؟ وهل ما نسمعه عن السرقات الفكرية مجرد أوهام وتُهم مغرضة أم أنها ظاهرة حقيقية،رمت بجذورها في حياة الإنسان الفكرية،لا سبيل إلى نكرانها؟
السرقات الفكرية،في مفهومها،هي اغتصاب النتاج العقلي أيا كان نوعه أدبيا أو علميا أو فنياً أو آخر ونشره دون عرض المصدر الأصلي.وهي مختلفة وتشمل شتى المجالات الإبداعية من الأدب بما فيه من شعر ونثر،وعلوم من بحوث منهجية،وكتابات عامة تتناول شتى القضايا. والسرقات الفكرية نوعان: السرقات التامة وتتمثّل في انتحال الإنتاج الفكري كاملا ونسبته إلى نفسه،والسرقات الجزئية وتتمثّل في أخذ جزء من عملٍ ما لتكملة عمل آخر.وتبقى السرقة سرقة،كبيرة كانت أم صغيرة.
ويبقى السؤال : هل هناك حد ما يجب أن تقف عنده مقولة «المعاني مطروحة في الطريق»؟
فعلى غرار المقولة الشهيرة “من أين لك هذا؟!” ينبغي أن نسائل أولئك الأسطوريين الذي ينشرون أعمالا أدبية وفكرية جديدة بشكل يومي في مختلف وسائل النشر،وليس هناك من رقيب على المنتج الأدبي ولا شبهات تثار حول الأديب الأسطوري..حيث ينبغي أن يكون دور المثقفين هو خط الدفاع الأول للحد من تنامي هذه الظاهرة وتفشيها، والتصدي بأقلامهم لمثل أولئك المرضى لفضحهم علانية حتى يكونوا عبرة لسواهم..
يقال إن السرقة بأنواعها المختلفة شبيهة بحالات الإدمان أو المقامرة أو الشراهة في الأكل، بحيث يرتفع مستوى الأدرينالين في الجسم إثر القيام بالعمل، ليشعر المرء بحالة من اللذة الفوريّة والنشوة العارمة.
بالنظر إلى خبايا ودوافع السرقة الأدبية،سنجد أمامنا عدة احتمالات:
فهي قد تكون مرضًا نفسيًا عائدًا إلى شعور بالفشل،إذ قد يحاول السارق الاختباء خلف أعمال الآخرين ونجاحهم،وكأنه يريد أن يرتدي قناع الآخر لتخبئة ضعفه فيلجأ للسرقة ليثبت وجوده، أو لربما هي حالة ناتجة عن رغبة في الانتقام من نجاحات الآخرين،أو من الممكن أن تكون عائدة إلى مشكلة في التنشئة وفي طفولة السارق وسوء تربيته.وقد يكون السبب بكل بساطة انعدام قدرة السارق الأدبية ومحاولة الوصول واكتساب الشهرة والتباهي أمام الجميع بما ليس له عن طريق اتخاذ كاتب آخر ذي قدرات عالية سلّما للوصول إلى المبتغى المطلوب.كما لا يسعنا التغاضي عن احتمالية الغيرة المرَضية التي تنعكس في عدم احترام الذات والخوف والبغض،وتؤدي إلى السرقة كتغطية لهذا الفقدان الكبير.وهذه الغيرة تولد أحيانا من إعجاب السارق المفرط بالنص ورغبته بأن يكون هو صاحب التقدير والإطراء،وكأنه بذاك الفعل يوهم نفسه ويخدعها،ثم يصدق أنه صاحب القدرات الفكرية والإبداعية والثقافية،وليس الآخر المسروق منه.وهذه أقصى حالات المرض.
وهنا نشير إلى أن السرقات الأدبية ظاهرة قديمة تخص الأدب العربي وغيره من الآداب الأخرى.وقد سميت السرقة الأدبية بالتلاص.والتلاص مأخوذ من لفظة اللصوصية.وسميت السرقة تلاصاً للتمييز بينها وبين التناص الذي حاول الأدباءـ من خلاله ـ تبرير بعض السرقات متكئين على فكرة أن أي نص أدبي،في النهاية،هو فسيفساء من نصوص مختلفة،ومن مخزون ثقافي فكري وأدبي متراكم،ما يخلق بعض التشابه بين النصوص،ويوقع الأديب أمام شبهة السرقة. واليوم يشهد العصر الحديث انفلاتاً في ارتكاب خطيئة السرقة الفكرية والأدبية بفعل ذلك الاتساع الإلكتروني الكبير،الذي يسهّل من عملية الاطلاع على نصوص الآخرين، واقتناص الأفكار والتعبيرات،بل والاتكاء على التقنية في اللصق والانتزاع،ضمن تفاوت في التمكن يخضع لذكاء السارق وبراعته في إخفاء السرقة،والتصرف في المضامين والتعبيرات، بموازاة سعة ضميره الأخلاقي، ونسبيته في الإحساس بالذنب.وتشهد الساحة الأدبية،اليوم، اعتداء يصل إلى عناوين الأعمال الأدبية المطابقة،تماماً،إذ يتم انتزاعها عن عتبات النصوص لتنقل إلى أجساد أعمال أخرى،غريبة عنها وعن لغتها ووجدانها،قسراً وبهتاناً.
والسرقة إن دلت على شيء فإنها تدلل على نضوب دواخل الأديب، وشح إمكانياته. والسرقة ـ في النهاية ـ مهما كانت مبرراتها ومسبباتها تظل تشوهاً أخلاقياً قميئاً؛ منتهِكاً لدواخل الآخرين ولغتهم وأفكارهم. وتتفاقم بشاعتها حين ندرك أن من يسرق كلمة أو عنواناً قادر على سرقة وطن كامل، وقادر على انتزاع روح من ذاتها، وعلى انتزاع هوية من جسدها، وهي مؤشر على التزاحم البشري في دوائر الماديات على حساب القيم، والنبل الإنساني، وهي مؤشر على النضوب،والجفاف الذي يهدّد الواقع الاجتماعي المعاصر،على اختلاف مساحاته وحدوده.
مع انتشار التكنولوجيا وعالم “فيسبوك” الأزرق و”«تويتر”،أصبحت أبواب السرقة والأسوار كلها مشرعة ومشجعة على السرقات الأدبية،في ظل غياب أي تحرك جدي حازم لحل المشكلة قبل أن تصبح آفة المجتمع الثقافية الأولى.وتبقى أيضا بعض كتاباتي بالصحف التونسية والعربية معروضة على الأرصفة وقارعة الطريق،تتلاقفها أحيانا -بعض الأقلام المأجورة-دون خجل أو وجل-وتنسبها لنفسها المريضة..