حميد قرمان
أمد/ تعاني قناة الجزيرة التابعة لدولة قطر بعد سنوات ما سمّي بالربيع العربي من معضلة أساسية هي بيان خطها الأيديولوجي الإخواني في الطرح السياسي المغلف بأدبيات المهنية الإعلامية مما أثر على جماهيريتها التي تهاوت في الشارع العربي، جماهيرية كانت معتمدة على وهج الإثارة الإعلامية من خلال رفع السقف السياسي تحت وطأة شعارات شعبوية.
عوامل عديدة ساهمت أيضا في تشكيل هذه المعضلة لعل أبرزها حالة الانقسام في الشارع السياسي العربي عموما التي أنتجها “الربيع العربي” جعلت من مصداقية الجزيرة في موضع تشكيك مستمر، فالسردية التي تتبناها القناة لأيّ حدث سياسي أصبح يقابلها طرح ورأي أقوى تطرحه قنوات إخبارية تزاحم الجزيرة في شعارها الرأي والرأي الآخر في حرب الاستحواذ على عقلية المواطن العربي وترويج أيديولوجيات وعقائد فكرية تتصارع على مسرح الشرق الأوسط السياسي.
معضلة الجزيرة أنها أسست بشكل أو بآخر لازدياد التصدع بين رؤى القناة وسياسات دولة قطر؛ فقناة الجزيرة أصبحت دولة داخل الدولة القطرية، وهو ما بدأت تستشرفه الدوائر السياسية والأمنية القطرية، في تضارب المصالح بين ما تسعى إليه القناة وأيديولوجيتها الإخوانية بفرض وقائع سياسية تُحيي وتخدم خططها، وما تريده قطر كدولة بالحفاظ على نفوذها السياسي المرن على الساحتين الدولية والإقليمية.
قطر أنشأت الجزيرة لتكون قوة أو أداة ناعمة لترويج نفوذها لتسيطر من خلالها على مفاصل أنظمة حكم في دول في الشرق الأوسط وتكرّس دورها الإقليمي والدولي وتعزّزه، لكن القناة شكلت بعناصرها ومحلليها وأيديولوجيتها الإخوانية قوة وسطوة منافسة لنفوذ سياسات الدولة، بل أصبحت في بعض الأحيان تقود قطر وترسم سياساتها ومسارات طبقتها الحاكمة، فعناصر الجزيرة وقياداتها ترى في قطر وسيلة لمشروعها الحُلم نحو “الخلافة الإخوانية”.
أزمات سياسية متتالية تدلل على بدء أكثر من شرخ في العلاقة بين القناة والدولة القطرية، لعل آخرها ما طفا على السطح خلال حرب غزة الحالية، فالسياسة القطرية اليوم تريد إثبات قدرتها على امتلاك مفاتيح مساعدة الإدارة الأميركية وحلفائها على استقرار المنطقة بما يضمن عدم ارتداد الحرب ونتائجها على ما بنته من نفوذ خلال السنوات الماضية، لذلك لم يتردد مسؤولو قطر عن الإعلان أمام الساسة الغربيين وداخل أورقة مؤسساتهم بالتضحية بالعلاقة مع حركة حماس في سبيل الحفاظ على العلاقات معهم، وهو ما يصطدم بسياسات قناة الجزيرة التي وظفت أدواتها السياسية وثقلها الإعلامي للإبقاء على دور حماس فاعلا بل ومنتصرا من خلال تضخيم إمكانياتها ما انعكس على سلوك الحركة في جولات المفاوضات الخاصة بالهدن، فما كان من الدولة القطرية إلا أن مارست ضغوطا للجم الحركة استجابة للخطة الأميركية المتبلورة لإنهاء الصراع.
الضغوط القطرية على حماس لم تقف عند هذا الحد، بل عمدت السلطات القطرية المعنية بملف إدارة العلاقة مع الحركة بمنع أيّ تسريبات بشأن سير العملية التفاوضية بين الكيانات الاستخباراتية للدول القائمة على هذا الملف من الوصول إلى إدارة القناة لتوظيفها بما يخدم الحركة، فيما لجأت الجزيرة لتجاوز هذا المنع إلى شبكة علاقاتها مع صحافيين وإعلاميين داخل الكيان الإسرائيلي والدول الغربية لمواكبة الأحداث المتسارعة في ملف المفاوضات في محاولة كسب نقاط سياسية تستفيد منها الحركة والجماعة الأم إعلاميا وشعبويا.
قطر تريد إظهار حقيقة حماس المتهالكة بعيدا عن خطاب القناة الإعلامي السياسي التهويلي، الذي تبنى الترويج لوقائع الحرب لصالح الحركة، بل اختلق بعض جزئياتها وتفصيلاتها من أجل تماسك حماس وعدم انهيارها، حيث نصّبت القناة نفسها جزءا من الصراع ضد خصوم الحركة وأعدائها، فالحركة تمثل آخر القلاع الإخوانية في المنطقة التي تعقد عناصر وقيادات القناة آمالهم لاستنهاض الجماعة الأم برمتها.
ترويض قطر المستمر لقناة الجزيرة لم يعالج حالات التمرد الإخواني بالخروج عن الخطوط المرسومة له، بعد أن تبين أن عزل مدير القناة السابق ومنع قاماتها ومذيعيها من الظهور على شاشتها لم يحد من حالة التصدع بالعلاقة بينهم، فقطر أصبحت تدرك حقيقة واحدة أنها خلقت وحشا سيلتهمها رويدا رويدا بأيديولوجيته الإخوانية، خاصة أن الدوائر السياسية الأميركية أصبحت تستبعد دولة قطر من أي ترتيبات سياسية تصب في إيجاد حل للصراع المتزايد في المنطقة.