محمد المحسن
أمد/ “ليست تَسويةً /أَو لا تَسويةً/بل مَنظورُ رؤُوسُ الأَموالِ /ومَنظورُ الفقراء/أَعرِفُ مَن يَرفضُ حقاً /مِن تاريخِ الغُربةِ /والجوعِ بعينَيهِ/وأَعرِفُ أَمراضَ التُّخمةِ..(مظفر النواب)
-“تفاح جرحكِ،هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟/يتفقد الأغراب جرحكِ:«قد تموتْ في الفجر غزة،قد تموتْ»وتعود في الفجر الحزينْ/صيحات حبكِ والحياة/أقوى وأعلى،يا صباح الخير،أختَ المعجزاتْ”(معين بسيسو)
– نخجل من الكتابة عن المقاومة التي تخترق سجوف الصمت والرداءة و-تبرّر- هزيمة قدراتنا على الدوران خارج النبل التاريخي المتمثّل في جسارتها..(الكاتب)
-نتطلّع إلى ملحمة البطولة التي تمثّلت على الأرض بالمقاومة،والتي ستتجلّى في تصحيح التاريخ بأمثولة تكتب لكل الشعوب ملحمة خالدة تقاوم الموت المتعسّف وتكشف زيف قوّة الذراع والسلاح،لتمجّد ألق الرّوح الشعبية التي تكتب الشعر بإيقاع الإنفتاح على الخلود.(الكاتب)
نخجل من الكتابة عن المقاومة العربية الجاسرة في غزة في زحمة الكلام.
نخجل لأنّ الكلمات،ما زالت تحوم في الفلك المحيط بجوهر المقاومة،ولأنّها تصبح فعلا مجسّدا خارجا من شرايين جسدها الغاضب وأوردتها.وستكون الكتابة عن المقاومة المدهشة فعلا مفعما بالصدق إذ تصبح عملا معادلا لعظمة اليأس الذي تجلى فيها دون مساومة.
وهكذا تحوّل الإنتظار الذي طال إلى ثورة ترسم المستقبل،تلك الثورة التي هي ليست ردا على اعتداء الغرور الصهيوني وحسب،بل ثورة على الماضي المدعوم بالظلم العالمي وبالدور الظالم للسلاح المتقدّم وهو يواجه الصدور العارية والأمعاء الخاوية.
هل نخجل من الكتابة لأننا بإنتظار”هومير” عربي كي يسجّل ملحمة التحرّر الحديثة وهي تتخبّط في بحر التآمر الدولي،أو لأنّ الملحمة التي ستكتب بالكلمات ستكون المعادل الحقيقي لعظمة هذه المقاومة..؟
المقهورون وحدهم يمهدون الأرض أمام من سيكتب تلك الملحمة لتدخل في سجل التاريخ كعمل عظيم يوازي عظمة الغضب.
الغاضبون هم الذين يصنعون أسس عمارة الملحمة التي ستنتصب في مسيرة التاريخ شاهدا على أنّ الكتابة فعل يوازي عظمة الغضب.
لذا فنحن نخجل من الكتابة عن المقاومة التي تخترق سجوف الصمت والرداءة و-تبرّر- هزيمة قدراتنا على الدوران خارج النبل التاريخي المتمثّل في جسارتها..
قدر “الغزاوي”المعاصر أن يحمل وطنه معه في هجراته،وقدر “الغزاوي”أيضا أن يحمل لوعة الإنتماء إلى التراب الذي أنبته،وقدر “الغزاوي”كذلك أن يقايض رصاص الأعداء الغادر بصبر الأنبياء الجاسر،وقدر “الغزاوي”أن يساند (بضم الياء وفتح النون) بالنحيب العربي ويمطر بوابل الخطب المتعاطفة وباللغة المنسوجة على نول البلاغة.
وقدر الأطفال في -غزة-ألا يبلغوا الحلم ،بينما قدر النساء أن يصبن بلوعة الحزن على الأحباب،وقدر العائلة هناك أن تمزّق أطرافها المتماسكة جوارح التعسّف الظالم.
ألا نخجل من تسطير الحروف وحسب،بينما يخجل “الغزاوي”من الإستسلام فيحوّل مسيرة الحياة إلى نقمة لا يملك فيها سوى الرفض والأمعاء الخاوية..!؟
لهذا ولذلك نتطلّع إلى ملحمة البطولة التي تمثّلت على الأرض بالمقاومة،والتي ستتجلّى في تصحيح التاريخ بأمثولة تكتب لكل الشعوب ملحمة خالدة تقاوم الموت المتعسّف وتكشف زيف قوّة الذراع والسلاح،لتمجّد ألق الرّوح الشعبية التي تكتب الشعر بإيقاع الإنفتاح على الخلود.
لا أقول إنّ الرأس تطأطأ أمام الموت من أجل الوطن،بل أنّ الرأس لتظل مرفوعة فخرا بشعب أعزل يؤمن بأنّ الشجرة إذا ما اقتلعت تفجرّت جذورها حياة جديدة،وتلك هي ملحمة الإنبعاث من رماد القهر وهي بإنتظار من يدخلها ذاكرة التاريخ عملا عظيما يشع منارة في المسيرة الظالمة التي تنشر ظلمتها قوى الشر في هذا العالم.
ختاما أقول : أن تكون في غزة عليك أن تعتذر للتاريخ عما ارتكبت الجغرافيا من حماقات فالبحر أمامك ووراءك..واليابسة كلها مجال حيوي للدبابة والجرافة وكل ما يسيل من لعاب سام من أنياب الاحتلال الزّرق..
إنها مجرد صدفة أن لا تكون هناك وان لا يكون أبناؤك قد تحلقوا حول سراج بدائي، ينفد الكاز منه قبل أن يكملوا الصفحة الأولى من الكتاب.
وباختصار فان غزة القطاع انتهت إلى قطيعة،وعوقب الطفل الرضيع والشيخ الذي يعيش قاب شهرين أو أدنى من قبره على ما لم يقترفا،وأصبح الاحتلال ينعم بقدر من البراءة الكاذبة،بعد أن انقلبت المعادلة وكأن البادئ لم يكن هو الأظلم وكأن مجرد التعبير عن الألم جريمة..!
أن تكون في غزة ذلك أمر يحتاج إلى قدر من الخيال لم نعد كعرب نملك حتى القليل منه، لأننا واقعيون أكثر من الزواحف ولأن العمى بلغ البصيرة أما اليد فقد بترت من الكتف، فلا عناق ولا إشارة ولا تحية عن بعد. أن تكون في غزة يجب عليك أن تطفئ الكهرباء في منزلك، وتتحول الثلاجة على شحة ما فيها إلى خزانة من الحديد، وعليك أيضاً أن تتأقلم مع موتك البطيء فلا دواء ولا هواء ولا فضاء إلا ما يجود به المحتل الذي يملك المفاتيح كلها.
سلام هي غزة..إذ تقول وجودنا تقول وجودها الخاص حصرا..فلا هويّة لنا خارج فضائها..وهي مقامنا أنّى حللنا..وهي السّفر..
سلام هي غزة..
** ذكر ياقوت الحموي** في معجمه،بأن اسم المدينة قد اشتق من فعل «غَزّ»الذي يحمل معنى «اختصّ»،بما يعني أن الذين بنوا غزة،قد اختصوها من بين المواقع الأخرى على المتوسط. وتعني غزة أيضاً المنعة والقوة.ومن بين أسمائها غزة هاشم؛تيمناً بجد الرسول الأكرم،الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها.
ولأن لكلٍّ من اسمه نصيباً كما تقول العرب،فقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة،على مقاومة غزاتها الطامعين عبر الزمن،تماماً كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية،في حين كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب،يزدادون صلابة ومنعة وتشبثاً بأهداب الحياة.
**ياقوت الحموي..شِهَابْ اَلدِّينْ أَبُو عَبْدِ اَللَّهْ يَاقُوتِ بْنْ عَبْدِ اَللَّهْ اَلْحَمَوِيِّ الرومي البغدادي (574هـ/1178م – 626هـ/ 1229م)،أديب وشاعر ولغوي ومؤلف موسوعات وخطّاط ورحالة جغرافي.