حميد قرمان
أمد/ على امتداد المسيرة النضالية الفلسطينية الطويلة التي تقف على مشارف مئويتها الأولى، خاض الشعب الفلسطيني تجربته بوسائل كفاحية متعددة في سبيل التحرر والاستقلال من الانتداب البريطاني وما تلاه من احتلال إسرائيلي جثم على صدره أجيالا تلو أجيال.
مسيرة متشعبة بدأها بهبات شعبية بالفترة ما بين 1920 و1933 لعل أهمها هبة البراق عام 1929، إلى أن نضجت الظروف بقيام ثورة 1936 التي توفرت لها شروطها وبيئتها ووسائلها، ورغم ارتفاع نسق المجازر التي تحزمت بالموت الشنيع، إلا أن الشعب الفلسطيني عاد يشق طريقه نحو الحياة والنضال دون خوف من جنون المحتل.
واستمرت المسيرة بين إستراتيجيات كر وفر حسب سياقاتها التاريخية بتكوين الشخصية الكفاحية الفلسطينية الجامعة بين حقول العمل الثوري وفكره، ومجالات السياسة المرتبطة بمشاريع عربية لتحرير فلسطين إلى حين انطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي صعدت سريعا على هرم قوى المقاومة الفلسطينية، وتزعمت منظمة التحرير لعوامل عديدة أهمها؛ قدرتها على استيعاب ألوان الطيف السياسي والفكري والثقافي الفلسطيني من أقصى يساره إلى أقصى يمينه.
مسيرة جالت أرجاء الأرض بأسرها برمزية الكوفية ذات اللونين الأبيض والأسود.. من فيتنام وحربها، إلى مجاهدي خلق وثورتهم المسروقة، مرورا بحركات التحرر في أفريقيا وأميركا اللاتينية، مما جعلها، أي المسيرة، مطمعا لدول وجماعات.
وفيما توالت السنوات بين الحروب العربية ضد إسرائيل التي اشتبكت بعمليات الاغتيالات المتبادلة مع فصائل فلسطينية، وصولا لاجتياح بيروت والانتفاضة الفلسطينية الأولى، أدركت المسيرة النضالية الفلسطينية أن البقاء على مقارعة الاحتلال هو المعادلة الأكثر عقلانية، فكانت أوسلو الاتفاقية التي خلقت الكيانية السياسية الفلسطينية.
رشد المسيرة الفلسطينية حدد للشعب مساره وغماره، بعيدا عن حقول الفوضى الثورية والبنادق المستأجرة وأجندات إقليمية تراه قربانا في صلواتها السياسية، بإيمان تنطوي تحته حقيقة واحدة فقط؛ أن الوطن يبدأ بدولة تحيا برجالها وبقائهم على أرضهم بعد رحلة تنقل طويلة.
واقع المسيرة داخل الوطن يختلف عن خارجها، ففي داخل الوطن أصبحت المسيرة أكثر تحفظا أمام مساعي إلصاق عوارض كفاحية جديدة، لعل أخطرها كانت العمليات الانتحارية، والتي انتشرت إبان انتفاضة العام 2000، كدلالة على مصداقية القضية وشرف نضال شعبها وصموده، فاصطدم هذا العارض الدخيل على الفلسفة النضالية للفلسطيني وثقافة اشتباكه ومقارعته للاحتلال، بلفظ المجتمع وطبقاته المتنوعة له، كونه يحمل تكلفة إنسانية ثقيلة، فلم يستمر بل اندثر بلا رجعة، ليتم استيراد عارض جديد يتمثل بصواريخ خلقت حروبا فرضت على الشعب الفلسطيني لا معنى لها ولا هدف.
حروب خاضتها حركة استفردت بقرار الحرب والسلم ارتباطا بمحور إقليمي يرى في هذه الحروب وسيلة لتحقيق أجنداته. ليأتي تتويجها بالسابع من أكتوبر البائس، ثم خطة قوات الرضوان التابعة لحزب الله، وتتفجر الويلات والأزمات الواحدة تلو الأخرى، ما أثقل فاتورة الدم المهدور في أزقة وشوارع القطاع الذي أكلت النار قلوب سكانه.
جاءت العملية وسط محاولات لسياسيين وصحافيين خرجوا على وسائل الإعلام، وعلى منابرهم المدفوعة، يباركون ذلك اليوم المشؤوم ويتسابقون على توصيفه بانتقاء المفردات، ومظاهرات هتف من ساروا بها لتقديس الموت بعبارات لا معنى لها، وبحناجر تصدح عجزا أمام واقع الوحشية مستنكرين تشبث الضحية بالحياة، واستطلاعات رأي تسوق خيارات الشعب وترسم طموحاته لفرض أفكار لا تنتمي له وتختبئ خلف صفحات الواقع الافتراضي وعوالمه، ولا تكترث إلا لنهاية القصة التي ما زالت تحمل فصولا من معاناة البقاء وفرضيات الموت الواحد.
مجددا.. لا يوجد مسوغ ثوري أو نضالي فلسطيني ينتمي إليه السابع من أكتوبر، فهو ليس من ثقافة الشعب الفلسطيني وحضارته وإرثه الممتد منذ عقود طويلة تراكمت عبره منجزاته الإنسانية، باندماج التاريخ بالحاضر نحو مستقبل يحمل الحرية والكرامة، فالشعب الفلسطيني خاض ثوراته بنضال يتسم بعقلانية وواقعية قراءته للظروف الدولية دون مهلكة تدفعه لمصير الهنود الحمر الذين انقرضوا مع قضيتهم.