صلاح الوادية
أمد/ صحيت من نومي وبي شوقا عارما وشديدا لغزة بكل تفاصيلها ومراحلها ولحياتي السابقة بكل مراحلها ومحطاتها وشخوصها، أكثر من ثلاث ساعات الآن وأنا أعيد شريط حياتي وأتذكر كل مفاصلها الجميل منها والسيء، ذكريات تخليت عنها وأحلام هربت منها وطموحات قفزت عنها وأصدقاء لا أعلم عنهم شيئا الآن في معظمهم كانوا أوتاد كل مرحلة من حياتي.
حياتي في غزة لم تكن مرة واحدة متصلة وبرتم واحد وشكل واحد وبنفس الأشخاص بل كانت مراحل منفصلة ومختلفة تماما عن سابقاتها وبمجتمع مختلف وأصدقاء ومغامرين جدد، بعضهم تنقل معي كطيف من مرحلة لأخرى ولكنه بقى حولي ولو من بعيد وبعضهم اختفى تماما وكأنه بطل قصة مضى وبعضهم ثابت معي في كل مراحلي ولا أعني بثابت أن شكل العلاقة بقى ثابتا بل أنه ما زال موجودا في حياتي حتى في منفاي هذا.
وأنا أقلب شريط حياتي الغريب هذا عدت في الذاكرة لأكثر من شخص كنت أستغربهم كثيرا، وطوال سنوات حياتي الماضية لم أفهمهم، ربما كانت المقاربات من جانبي لمحاولة فهمهم مجحفة في الماضي أما الآن وفي أقل من ثلاث ساعات شعرت أن ستارة غريبة أزيحت من أمام عيناي ورأيت أشياءا لم أراها من قبل ورأيت أنهم جميعا كانوا أبناءا لواقع وقفزوا لواقع آخر، منذ صغرهم تغلبت عليهم أحلامهم وطموحاتهم الكبيرة وظهرت جلية في سلوكهم وتصرفاتهم وإدارة علاقاتهم بل خططهم الصغيرة والكبيرة، وفهمت الآن أنني مثلهم وربما وغالبا هم كانوا يستغربوني أو لم يفهموني، لم يفهموا تقلباتي وتنقلاتي واختفائي المتكرر والدائم حتى اللحظة، وهنا ربما أكون وجدت إجابة أخيرا لسؤالي الدائم والمتكرر والذي لم أجد له إجابة إلا الآن (لماذا رحلت). لكني الآن فقط فهمت أننا أبناء أحلامنا وسعاة لطموحاتنا وأفكارنا وأن الرجل إذا توقف حلمه عن النضوج أو اصطدمت طموحاته بحاجز ما فإنه يقفز عنه بكل ما أوتي من قوة متحملا أي ألم أو إنكسار غير ملتفتا إلى الوراء إلا بعد أن يكون تجاوزه تماما، وهنا تبدأ رحلة الحنين، التي أعادتني لغزة، هذه المدينة الصغيرة وأقصد قطاع غزة فهو في حسابات غيرنا مدينة وفي حساباتنا وأحلامنا وطموحاتنا كوكب دري يسع لكل شيء، وسع أحلامنا جميعا في السابق وحققنا فيه كل ما كنا نحلم به وأكثر مما كنا نحلم به، في غزة ولأنها كانت كبيرة جدا وشاسعة جدا وغنية جدا تنقلت فيها من مرحلة لمرحلة، كنت أدخل مجال أتقنه أو لا أتقنه وأقفز لغيره، أعيش تجربة جديدة بناسها وحكاياتها ومفرداتها وعندما اشعر أنني وصلت تمامها أقفز لمسافة جديدة لأركض بها نحو إنجاز جديد، والغريب في الأمر أنني كنت أحقق في غزة كل أحلامي وإن كانت صغيرة وصغيرة جدا ولكنها كانت تتحقق بسهولة، وكان كل رفاقي في كل مرحلة يقفزون مثلي ربما بدون انقطاع وبحياة متواصلة وليست متقطعة مثلي ولكنهم كانوا ينجزون ويتقدمون وكان فعلا الثابت الوحيد في غزة هو الحب. غزة وسعتنا جميعا ووسعت أحلامنا جميعا لأنها كانت كبيرة جدا وجميلة جدا وشابة جدا، كانت هذا الكوكب الذي لم يتم اكتشافه بعد من قبل غيلان الأرض التي تأكل كل مشرق وزاهي وجميل، كانت غزة لنا وحدنا، نلعب بها نحلم بها نزهو وننكسر ولكنها كانت تجبُرنا بحبها وبناسها وبالرفاق، لم تتخلى عنا مرة واحدة، غزة أعطتنا حياة ونضج وسعادة لم تعطها مدن كبيرة جدا لأبناءها.
ما زالت غزة حتى وهي تصارع الموت تداعبني في أحلامي وتفيقني من نومي لتعيد عليّ شريط حياتي ولتذكرني بكل محطاتنا معا، وتطلعني على عجل على وجوه الرفاق منهم من غادر ورحل ومنهم لا أعرف عنه شيئا ومنهم من قفز عن الحاجز مثلي ولكن يقينا يعيش نفس محنة الشوق التي تعتريني، ولكنها غزة حتى وهي تموت ما زالت تحاول أن تقول لي أو هكذا أشعر على الأقل بأننا سنلتقي من جديد وسأتجول في أركانها المعبدة بالذكريات وأعانقها حيا أو ميتا وتلك أمنيتي سجلوها عني، أو ربما سألتقي بها بوجه أبنائي، صحيح أنا زائل وأنتم زائلون ولكن صدقوني غزة معجزة وباقية.