د. أحمد يوسف
أمد/ كثيراً ما ظهرت المذابح التي وقعت في القرن الماضي إلى العلن من خلال تقارير وسائل الإعلام الغربية، وكذلك من شهادات شهود العيان، وأيضاً من التصريحات الساخطة الصادرة عن الساسة وأصحاب الضمائر الذين يُروِّجون للحرية. لهذا السبب، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يعرف معظم طلاب الجامعات والأكاديميات العلمية أنَّ النازيين ذبحوا ستة ملايين من الغجر واليهود وغيرهم؛ ومع ذلك، فإنَّ حقيقة أنّ هناك أيضاً 27 مليون من السوفييت ماتوا، بما في ذلك 19 مليون مدني، لا يدركها ولا يتحدث عنها إلا أقلية من الناس!! وفي حين ارتكب رايخ هتلر جرائم ضد الكثيرين من الأوروبيين، إلا أنَّ الحركة الصهيونية دأبت على التسويق والمتاجرة في معاناة مجموعة واحدة فقط هي اليهود، وهذا ما اسماه المعارض اليهودي للصهيونية نورمان فينكلستين “صناعة المحرقة”، إذ غدا توجيه أية انتقادات للإسرائيليين كأنه إحياء لـ”معاداة السامية” واضطهادات الماضي!! ولعل هذا هو السبب الذي يجعل العالم يتجنب توجيه اتهامات لإسرائيل، وغض الطرف عما يحدث في قطاع غزة من قتل وجوع وحصار، بينما سياسة “الإبادة الجماعية” تم ي على قدم وساق ولا تخطئ مشاهدها العين!!
وبالرغم من اعتياد الفلسطينيين على تجاهل العالم لمعاناتهم، إلا أنَّ أحداً لم يكن يتخيل أن يكون حجم “اللامبالاة” بهذا القدر من اللاإنسانية. لقد ذبح الإسرائيليون أكثر من 33 ألف شخصٍ، من بينهم أكثر من 12 ألف طفلٍ في غضون ستة أشهر، وهناك من الجرحى والمصابين ما تجاوز الـ 73 ألفاً. لقد انتهك جيش الدفاع الإسرائيلي باستمرار كلَّ القوانين الدولية التي يمكن تصورها فيما يتعلق بمعاملة السكان المدنيين قبل وأثناء الإبادة الجماعية؛ ولم تتم محاسبته -للأسف- ولو لمرة واحدة!! أليست هذه الجرائم والانتهاكات بحق الإنسانية موضعاً للمساءلة؟! فعندما يبقى المرضى والجرحى بانتظار تصريح خروج للعلاج ويكون الرد بالرفض!! أليس هذا الموقف يستدعي المحاسبة؟ أليس عندما يغتالون العاملين في مجال الإعلام مثل شيرين أبو عقلة وما لا يقل عن 132 آخرين من الصحفيين، وأكثر من ذلك من موظفي الأمم المتحدة (الأونروا) والعاملين في المطبخ العالمي (وردكتشن) منذ تشرين الأول/أكتوبر، ويرتكبون المجازر ضد الأطباء والمرضى في المستشفيات، كما حدث مؤخراً بمشفى الشفاء في غزة، أليست هذه الانتهاكات موضعاً لحساب وعقاب؟! أليس عندما تدوس مركباتهم العسكرية نشطاءَ السلام مثل (راشيل كوري) أو غيرها من المدنيين في المناطق التي يحتلونها، أليست هذه السلوكيات العدوانية اللاإنسانية تستوجب أن يصرخ العالم المتحضر في وجوههم: كفى؟!
أشارت دراسة أجريت العام الماضي إلى أن 86% من الأطفال تعرضوا للضرب، و69% للتفتيش بالتجريد من الملابس، و42% أصيبوا أثناء الاحتجاز، بما في ذلك طلقات نارية.
إنَّ ما لا يمكن فهمه ليس قسوة المكائد الصهيونية وحدها، والتي لم تخفِ رويتها، بل درجت على كتابتها والتصريح بها، وقد تمَّ توثيق معظم هذه الخطط منذ عقود، حيث كتب تيودور هرتزل عن دفع السكان إلى البلدان المجاورة منذ عام 1895، مشيراً إلى أن “المصادرة… يجب أن تتم بتكتم وحذر”. وبعد ما يقرب من نصف قرن، نفذَّت القيادة العليا الصهيونية خطة (دالت) التي تناولت بالتفصيل “تدمير القرى بإشعال النار وتفجير وزرع الألغام في الأنقاض، وخاصة تلك المراكز السكانية التي يصعب السيطرة عليها بشكل مستمر”. لقد ذكر جوزيف فايتز؛ رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية، في عام 1940: “يجب أن يكون واضحاً بيننا أنه لا يوجد مكان للشعبين للعيش معاً في هذا البلد… ليس هناك طريقة أخرى سوى نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة”.. وجاءت خطة بيغن- برافر لعام 2011 في أعقاب العديد من العمليات التوسعية الأخرى، هذه المرة بتنسيق “التطهير العرقي” للعرب البدو خارج النقب، ثم نشر سموتريتش؛ الصهيوني المتطرف، مقترحه المسمى “الخطة الحاسمة” لعام 2017، والتي تُذكِّرنا بالحلِّ النهائي الذي صاغته النازية للتخلص من اليهود في أوروبا؛ ويبدو أنَّ المتطرفين مثل بنيامين نتنياهو، ونفتالي بينيت، وتسيبي ليفني، وبن غفير، وبيني غانتس، ينفذون هذه الخطة، ويخططون بشكل واضح لضم الضفة الغربية، وتدمير قبة الصخرة المشرَّفة، وإنهاء الحكم الذاتي في غزة.
وكما ذكرت، ليست الأعمال الصهيونية هي من يستعصي فهمه، لأنها سبق الكتابة عنها، ولكن الذي يصعب تفهمه هو هذه التغطية السريعة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية للأحداث، حيث تميل -وبشكل سافر- في كثير من الأحيان إلى إيصال القصة الإنسانية المتعلقة بالأسرى الإسرائيليين لدى حماس مع مشاهد المتظاهرين في تل أبيب وهم يهتفون “أعيدوهم إلى الوطن”؛ لكن في الوقت نفسه هناك تجاهل متعمد لتغطية أسر 3480 فلسطينيًا تحت مسمى “الاعتقال الإداري”، وهي العبارة التي تُخفي ظلم الاعتقال لأجل غير مسمى دون تهمة، حيث لا تحتاج القصص الكاذبة التي تروجها ماكينة الدعاية الصهيونية للأطفال المقطوعة الرأس وحوادث الاغتصاب المفبركة إلى التحقق من صحتها، قبل أن تتصدر العناوين الرئيسية في الغرب كحقائق غير مطعون بصدقيتها!! لكن عمليات الإعدام الميداني للفلسطينيين بقرارات فورية، وتدمير المخيمات والمؤسسات التعليمية والصحية بالجرافات، وقتل النساء والأطفال بدم بارد، وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، فهي لا تستحق من الإعلام الغربي القيام بتغطيتها وتناولها كعناوين في صفحاته الإخبارية!!
إنَّ القنوات الإعلامية الغربية لا تتجنب تغطية وجهة النظر الغزية فحسب، بل إنَّ الصحفيين الغربيين أيضاً يبذلون قصارى جهدهم للتقليل من شأن أي صوت آخر يمكن أن يتحدث نيابة عنهم!!
إنَّ الوكالات العالمية -للأسف- لها أجنداتها الاستعمارية، وهي لا تبذل الكثير لإلقاء الضوء على الوضع المأساوي وسياسة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، بل إنَّ أيَّ هيئة دولية لم تكلف نفسها -وأسفاه- بإرسال مراقبين لتوثيق شهادات الشهود أو حتى بغرض الحفاظ على الأدلة!!
إنَّ التقاعس المخزي وغير المسبوق من جانب الدول العربية والإسلامية، والمحاولات المتواضعة من قبل الرؤساء العرب على ممارسة الضغط على حلفاء إسرائيل في الغرب للتخفيف من معاناة الفلسطينيين، هو وراء هذا التغول الإسرائيلي في ارتكاب المجازر بشكل همجي ولاإنساني.
إنَّ من المخجل والمهين للكرامة العربية والإسلامية أنَّ دولًا مثل جنوب إفريقيا وإيرلندا هي من تصدرت المشهد، واتخذت إجراءات أكثر حزماً وصرامة تجاه سياسة الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، فيما التزمت 57 دولة عربية وإسلامية الصمت، ولم تحرك ساكناً في مشهدية هي أقرب لصفحات العار لبقايا أمةٍ كانت عظيمة.
إنَّ من المثير للسخرية، أنَّ العالم قد بكى على الصور الفوتوغرافية وشهادات الشهود حول المحرقة (الهولوكوست) التي طالت اليهود وأرقام الضحايا لعقود من الزمن، رغم الشكوك التي أثارها المفكر الفرنسي “رجا جارودي” حول تلك الأرقام ومدى صدقية ما تمَّ تناوله من الروايات. في المقابل، ورغم مشاهد الإبادة الجماعية بالصوت والصورة، فإن الدموع الوحيدة التي ذُرفت على مشاهد القتل الجماعي واللاإنساني للفلسطينيين جاءت فقط من القواعد الشعبية الشابة في عددٍ من العواصم الغربية.
في الحقيقة، لولا وسائل التواصل الاجتماعي وكاميرات الناشطين إعلامياً في غزة وحول العالم، لنجح الصهاينة في طمس حقائق ما جرى ويجري من مجازر ترتكب يومياً بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما أسهم في تعرية “وجه الضحية”، الذي اعتاد الإعلام الصهيوني تصديره للعالم؛ باعتباره علامة مسجلة للشعب اليهودي.
ومع كلِّ المجازر والانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فإن الفلسطينيين يفقدون الأمل في إمكانية انتصار العالم لمظلوميتهم، وحتى في فرصة التوصل إلى وقف سريع ودائم لإطلاق النار، إذ من الواضح أنَّ الإسرائيليين عازمون على تطهير غزة والضفة الغربية -عرقياً- من سكانها الفلسطينيين؛ سواء من خلال الطرد أو الإبادة. يقول غابور ماتي، الناجي من المحرقة والمتخصص في الصدمات: “فكِّر في أسوأ شيء يمكن أن تقوله عن حماس، ضاعفها ألف مرة، وستظل غير قادرة على فهم أبعاد ودوافع هذا القمع والهمجية الإسرائيلية لقتل وتشريد الفلسطينيين”.
لقد شاهد العالم أكثر من 2000 مجزرة نقلتها عدسات كاميرا الجزيرة وكاميرات الهواتف النقالة، وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وشهد عليها شهود عيان، وتمَّ توثيقها بشكل رئيس من خلال المراقبين العاديين، إلا أنَّ مشهد الاحتجاج اقتصر فقط على جنوب أفريقيا، حيث كانت هي الدولة الوحيدة التي رفعت الأمر إلى محكمة العدل الدولية!!
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الخطوة، إلا أنَّ الإسرائيليين ما زالوا يواصلون التباهي بارتكاب الجرائم والانتهاكات بحق الإنسانية.
إنَّ استعداد العالم لتجاهل القوانين التي أصرَّ على وضعها في أعقاب حربين عالميتين، يُشكِّل إشارة واضحة إلى أنَّ النظام الذي أنشأه أصبح على وشك الانهيار.
وعليه؛ عندما يدرس المؤرخون نظريات تفكك الأنظمة وانفصام القواعد التي ارتبطت بها كمرجعية دولية، سيجدون أنَّ التعديات والتجاوزات والاختراقات لكافة أشكال القوانين الدولية والإنسانية التي انتهكتها إسرائيل في قطاع غزة عبر ما قامت به من مجازر سكت العالم عن إدانتها والمطالبة بمحاكمتها، كانت “نقطة الصفر-Ground Zero” أو البداية لتفكك هذا النظام العالمي، الذي أوشكت بنية ملامحه على التصدع والقابلية للاندثار.