تحسين يقين
أمد/ ماذا يعني بداية الرضوخ الإسرائيلي للحليف الأمريكي بشأن السماح للمساعدات بدخول غزة؟
اضطرت الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل التي أذعنت، وستسهّل إيصال المساعدات لقطاع غزة، بدل قتل الساعين وراءها، في عملية بشعة تم بثها مؤخرا. وسيبعد الرئيس بايدن مستشاره للأمن القومي لمتابعة الفعل الإسرائيلي.
لن يعد باستطاعة إسرائيل إسكات العالم، لا شعبنا كما فعل في إلقاء قنابل غازية بكثافة ألقتها ” طائرة احتلال مسيرة” في ساحات الأقصى على المصلين فجر أمس، الجمعة، لأن المصلين دعوا لغزة، وهل يمكن ألا يدعو المصلي لأبناء شعبه المقتولين، ولا تسكت أمة ضاقت بإجرامها ولا عالما لم يعد يطيق فعلها.
في كل يوم يتعمق الاستخلاص الصريح بعد بضعة أيام من الحرب على غزة، ألا وهو أن هذه الحرب هي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وليس فقط على المسلحين.
استعراض تاريخ قوانين التعامل مع المدنيين في الحروب، وصولا للقوانين الحديثة والمعاصرة، تؤكد على أن المتعاقدين كتابة وتوثيقا أو أعرافا غير مكتوبة، دوما أكدوا على أن الحرب إنما تجري بين مقاتلين، بين جيوش، لا بين جيوش ومدنيين.
نتفهم أن الحروب تحدث لحل مشاكل لم تفلح الطرق السلمية والدبلوماسية، كون الحروب هي إحدى طرق حل النزاعات والصراعات، ونتفهم حتى لجوء الدول لاحتلال أجزاء من بلاد أخرى، وهذا حدث طوال التاريخ وصولا الى الآن، وإن تم تغليفه بأوصاف أخرى. ولكن لا يمكن أبدا تقبل، في أي شكل من الأشكال، القتل المباشر للمدنيين، وتخريب ممتلكاتهم، بل وهدم البيوت على أصحابها.
في هذه الحرب-العار لم تراع إسرائيل، دولة الاحتلال، الحد الأدنى من القوانين الدولية أو الأخلاق، أو مقتضيات الأديان، التي تتفق على حرمة الدم. كما لم تراع الحليفة الكبرى، الولايات المتحدة، التي تستضيف المؤسسة الأممية، بيت العقد الدولي، حماية المدنيين، التي حصدت أرواحهم الأسلحة الأمريكية، كما لم تفعل ذلك دول كبرى غربية، في وقت لاذت فيه حكومات العالم الرسمية الى الكلام للمطالبة بوقف الحرب، من باب مجاملة الرأي العام في دولها والعالم، ولم يكن قرار مجلس الأمن الدولي ليحسم أمور هذه الحرب.
إن ملاحظة مسيرات التظاهر في العالم وبخاصة في الدول العربية المحيطة، لا تعني فقط التضامن مع فلسطين فقط، بل تعني من جوانب أخرى حالة الذعر الذي أصاب الشعوب، التي راحت تفكر جليا، بأن ما يحدث في غزة، يمكن أن يصيبهم.
لقد كانت محصلة الحرب علينا، كما تظهر ذلك بيانات الغزو، شبه تدمير لقطاع غزة، ما يؤكد أن الحرب لم تكن على المسلحين، بل على أهل غزة، فيما لم تتجاوز حصيلة التحرك العربي والدولي-الأمريكي بشكل خاص، سوى بعض طعام يلقى من الجو، يتدافع الناس لطلبه بين أمواج البحر التي كانت قبل أشهر ملاذا رومانسيا لزوار البحر.
والنتيجة، بعد التأكد من الحرب على شعب غزة، هي أننا في مجال محور شرّ قويّ ومتماسك، أصبح معروفا وصريحا، وهناك ممثلون رسميون له، في مجلات العمل الدولي المتنوعة. وهو محور بعيد عن الإنسانية، لا يفكر الا في مصلحه الخاصة، مع أنه كان الممكن تحقيق المصالح بعيدا عن قتل المدنيين وتدميرهم.
إطالة مفاوضات وقف إطلاق النار دلالة شرّ، ففيها تم تنفيذ الكثير من المجازر، كبراها مجزرة مستشفى الشفاء ومحيطه، بمعنى أنه في كل يوم تفاوض جديد في العواصم، كان ذلك يتم على حساب أرواح المدنيين وكرامتهم وممتلكاتهم الخاصة والعامة.
كيف لنا ولأي مدنيين في العالم أن نقتنع فعلا أنه من الصعب التوصل إلى صيغة مقبولة تنزل إسرائيل من على الشجرة، فهل فعلا مسائل وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وعودة النازحين إلى مناطق سكنهم، هي أمور معقدة للتفاوض عليها؟ أم أن إسرائيل ما زالت تبيّت هدف الترحيل، وجعل غزة مكانا لا يصلح للعيش؟
من الطبيعي في هكذا حرب، طالب مجلس الأمن الدولي الممثل لإرادات الشعوب بوقفها، أن تقف فعلا، أو أن يتوقف قصف المدنيين، فلا بد من الانسحاب الإسرائيلي، كما لا بدّ، وهذا ممكن، من عودة النازحين الى بيوتهم التي هجروا منها بدون مبرر أبدا.
فإذا كانت إسرائيل لا تريد فعلا وقف الحرب، إذن لم كل هذه التحركات السياسية؟ وكيف يمكن أن يتقبل أحد بقاء المشردين خارج بيوتهم؟
لقد فشل العالم، خاصة الدول المنخرطة بهذه المنطقة في إغاثة غزة، فبالرغم من علاقة إسرائيل الوثيقة بتلك الدول، إلا أن أيا منها “لم تمون” على إسرائيل بنقل المساعدات كما ينبغي، كون إسرائيل ترى في أهل غزة جميعا مقاتلين.
إن فشل المنظومة الإقليمية والدولية، في إغاثة غزة، ووقف الحرب عليها، سيكون نذير شؤم عليها مجتمعة، لأن ذلك يعني بشكل ما من الأشكال، صمتا مريبا قابلا للاتهام.
في النصف الثاني من العام في الحرب على غزة، سنتذكر سنوات سابقة وسنوات أخرى ستأتي، فمعنى الاحتلال بحد ذاته حرب مستمرة، لن تنتهي فعلا إلا بإنهاء الاحتلال، والذي يبدو أن دولة الاحتلال غير معنية بذلك.
عربيا، سيكون للموقف والأفعال العربية أهمية مستقبلية لا لإغاثة غزة وحمايتها، بل لحماية أنفسهم حكاما ومحكومين، فلم تعد للنظم شرعية كافية للاستمرار. بل إن هناك إيحاءات وتلميحات بإجراء تغييرات شكلية، ستصب في جوهرها، في إطالة الاحتلال والاستعمار حاضنه الطبيعي الأكبر.
والآن..
لعل ذلك في مجمله من دلالات فشل حماية المدنيين في الحرب على غزة، التي تحمل فشلا مكتملا!
وهي لن تكون مقتصرة على أهل غزة، فهم قد ذاقوا الويلات، وما يزالون، لكن، ستنشأ أسئلة لا أخلاقية فقط، بل وجودية عميقة، عن جدوى هذا الوجود، وهذه المنظومة الدولية، وهذا العقد الإنساني، الذي لم يضمن حتى الحدود الدنيا للسطو على الشعوب.
هي إبادة جماعيو وصلت حد التجويع والتعطيش، وهو عقوبات جماعية فيها مستويات متنوعة بدا بالقتل وانتهاء بالزنانة التي لا تدع للناس حتى بعض الهدوء.
نعود دوما لوقف إطلاق النار، هذه الحرب المنفلتة من عقالها..
ما فوق الطاولات وتحتها، هل نحن إزاء حالة بيروت عام 1982؟
إذا كان الحال كذلك، فإن بيت قصيد كل المسألة هو وقف الدم، وكل شيء يمكن أن يتغير عبر السنوات القادمة.
إن ضمان بقاء شعبنا على الأرض سيشكل لكل ذي بصيرة أننا بذلك وحده سنكون منتصرين، لسبب بسيط، أن هدف الحرب لم يكن فقط ضد المسلحين.
وأخيرا، سيظل لإعادة الاعتبار للعامل الذاتي الوطني الدور الأكثر أهمية على جميع المستويات القريبة والبعيدة، فهو الضامن الحقيقي لإبعاد شبح الوصاية على شعبنا، حفيد صاحب الأبجدية الأولى، وصاحب أسطورة العنقاء، سنقوم من جديد، وتلك إرادتنا، وخلال ذلك سنبكي من رحلوا، وسنتذكر كل ما كان هنا.
بقي أن نذكر بأمر: السلام ما زال ممكنا، إن أردنا جميعا، وطريقة سهلة واضحة، نبذ العنصرية، والإيمان بحقنا جميعا في تقرير المصير.
ولعله يكون هناك فعلا تحول حقيقي في السياسة الأمريكية، تجاه فعل “دولة الاحتلال”، لا فقط تجاه حكومة قاربت على السقوط.