محمد المحسن
أمد/ قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن النقد عمليّة أدبيّة لغويّة يقوم بها الناقد للقبض على دلالة النصّ واكتشاف بنيته وجماليّاته، والإشارة إلى ضعف أو إلى مواطن الجمال. وتختلف أغراض النقد باختلاف المدارس النقديّة،كالتحليل النفسيّ،البنيويّة الشكلانيّة، السيميائيّة،التفكيكيّة وغيرها.يقوم النقد اليوم على إعادة الاعتبار للنصّ.فالنصّ هو جوهر العمل النقديّ وركيزته.وبالتالي،النقد هو إبداع على إبداع.إذ يعدّ الناقد المبدع الثاني للنصّ.وحول هذا يؤكّد رولان بارث،وهو من أشهر أعلام النقد،على خاصّيّتين أساسيّتين: أوّلًا،النصّ النقديّ هو نصّ إبداعيّ من طراز ممتاز خاصّة إذا استطاع التخلّص من عوائق الإيديولوجيّات وعناصر التاريخ باستبدالها بتاريخيّة النصّ.والنقد هو ثانيًا نظام رمزيّ،كالنصّ الأدبيّ،ووظيفته وصف الدلالة،وليس فرض المعنى.
تعتبر القراءة النقديّة نشاطًا تأويليًّا فكريًّا يتطلّب قدرات قد لا تتوفّر عند كلّ القرّاء.فينبغي على الناقد أن يتمتَّع بالذوق الأدبيّ والثقافة والمعرفة اللغويّة والأدبيّة وطرق التحليل والموضوعيّة والإنصاف،بعيدًا عن المجاملة والمداهنة،فيكون حُكمه بدافع الارتقاء بالعمل وبعيدًا عن علاقته بالكاتب.
ولكن..بعض الكتَّاب ممّن يثقون في ذوق الناقد،يضعون نصوصهم الأدبية بين يديه بهدف تثمينها وتصفيتها،فالناقد حين يطّلع على العمل الأدبي قد يجد مشكلات في اللغة والأسلوب،أو أخطاء في النحو والصرف والإملاء وحتى البلاغة،سببها في الغالب عدم امتلاك الأدوات الفنية والتقنية الكافية،وأحيانا غياب الذوق الفنِّي في الكتابة الأدبية.كل ذلك يضطرُّ الناقدَ-اليوم-إلى استخدام المواربة لتبليغ خلاصةِ رأيهِ لصاحبِ النَّص،تفاديا لأي مساسٍ بمشاعرِه المرهفة أو الحطِّ من قدره،بتقديم القراءة النقدية تنجيما على شكل ملاحظات طفيفة..لأنَّ تقديم الانتقادات دفعة واحدة مدعاة-أحيانا-لرفض الكاتب النقدَ الموجه إلى نصه..!
وراجت في العقود المتأخرة فكرة مغلوطة بالأساس عن دورِ النقد ومهمتِه في خدمة الأدب وتطوير أساليبه وتحسين أجناسه وترقيتِها،بأنَّه عملية غايتها الهجوم على الكاتب والانتقام منه بالحطِّ من قيمة ما كتَبَ.وواكبَ انتشارَ مثلِ هذه النظرةِ السوداويةِ إزاء النقد،ظهورُ مصطلحاتٍ مثل “سلطة النص”،و”موت الكاتب”…إيذانا بانقلاب جذري على المدارس القديمة للنقد الأدبي التي تسحبُ البساط من تحت الناقد لتفرشه تحت قدمي الكاتب،وتضع هذا الأخير حيثما شاء،مهما كان مستوى كتابته،وكيفما استقر أسلوبه ولغته وإبداعه الفنِّي..!
وإذن؟
أن تكون ناقدا إذا،في هذه الفترة الحرجة من عمر الثقافة العربية،يعني أن تكون رجلا في مواجهة العالم،فيُعاديك الجميع،أو يحاولون افتعال العداوات معك. النقد الآن يعني أن تحتمل كل سهام العالم-الطائشة منها وغير الطائشة-لتستقر في صدرك،فإما أن تكون على قدر المسؤولية المقدسة لمعنى النقد،أو تنزلق في المستنقع الثقافي الذي يعيش فيه العرب وتضحى مجرد مادح للجميع،مُتكسّب مما تكتبه،قادر على تكوين شبكة علاقات اجتماعية شاسعة،وتصبح عضوا في “دولة نقاد أكل العيش”.
ربما كان هذا الحديث مجرد وصف دقيق للحالة الثقافية والنقدية التي تعيشها الآن المنطقة العربية التي لا ترغب نقدا من الآخرين،ولا كشفا لنقائصها وزيفها وهوانها وضعفها وعلاقاتها المتردية،بقدر ما ترغب في التجمل والمجاملات والنفاق والرياء والزيف،ليشعر المنقود في النهاية بالحالة الطاووسية التي يرغبها،ويتيه على الجميع باعتباره كاتبا عظيما لا يُشق له غبار،ومن ثم يحدث تزييف حقيقي للحالة الثقافية بالكامل يُشارك فيها الناقد في قتل الوعي الاجتماعي والثقافي للقارئ الذي يثق فيه ويأخذ حديثه على محمل الجد،فيصدق زيف الكاتب في نهاية الأمر،ومن ثم نرى أشباه الكتاب عمالقة مقدسين لا يمكن أن يقربهم أحد،بينما الكتاب الحقيقيون يقعون في المنطقة المظلمة من الثقافة العربية فيكونون طيّ النسيان.
وهنا أقول-بمرارة تحت اللسان-أن تكون ناقدا يعني أن تقطع علاقتك بكل من لهم صلة بالوسط الذي تكتب عنه،حتى لا توهنك العلاقات وتعطلك عن أداء دورك المنوط بك،وهذا-في تقديري- ما يجب أن يحرص عليه الناقد حينما يريد أن يكون ناقدا له فاعليته ودوره الحقيقي في الوسط الذي يكتب عنه،ومن ثم يجب أن تكون علاقاته بهذا الوسط مجرد علاقات سطحية لا عمق حقيقي لها،كي يستطيع امتلاك حريته فيما يكتبه من دون تخوف أن يخسر صداقاته وعلاقاته الإنسانية.
على هذا الأساس،تعتبر القراءة النقديّة نشاطًا تأويليا فكريا يتطلّب قدرات قد لا تتوفّر عند كلّ القرّاء.فينبغي على الناقد أن يتمتَّع بالذوق الأدبيّ والثقافة والمعرفة اللغويّة والأدبيّة وطرق التحليل والموضوعيّة والإنصاف،بعيدًا عن المجاملة والمداهنة،فيكون حُكمه بدافع الارتقاء بالعمل وبعيدًا عن علاقته بالكاتب.
أقول هذا،إيمانا مني بأن،النقد ثقافة ورؤية،فنّ يشترك فيه الذوق والفكر والفهم العميق.لكنّ النقد قد يورث-أحيانا-العداوة،وعلى حدّ قول الناقد المصريّ شكري محمد عيّاد: “للنقد أشواك : أقلّها إيذاء أنّ المنقود لن يرضى عنك أبدًا”.
النقد رافد للأدب وفي الآن نفسه متمم لجمالياته أو نواقصه.والانفصام غير وارد بين عمل الناقد وعمل الأديب لاسيما إذا كان الأديب ذا وعي نقدي،وكان الناقد ذا ميول إبداعية يدعم بها حذاقته التخصصية.
وهذا التلاقي بين الأدب والنقد ليس بالجديد،لكن الساحة الأدبية العربية اليوم تشير إلى عكس ذلك،فالأديب ينظر إلى الناقد أما صديقاً حين يستحسن أدبه أو عدوا حين يكتب عكس ذلك أو لا يكتب أصلا،فالنقد بالنسبة إلى هذا الأديب ليس ذا قيمة علمية كما لا أهمية له في إغناء الأدب وتطويره.ولعل كثيرا من الأدباء العرب يحملون هذا التصور،فيتهاونون في التزود بالثقافة النقدية بعكس أدباء الغرب الذين يدركون أهمية النقد وضرورة أن يكونوا ذوي فكر نقدي، وكثير منهم كان منظِّرا في الشعر والسرد مثل هنري جيمس وفرجينا وولف وألان روب غرييه..إلخ
على سبيل الخاتمة :
النقد،كسائر العلوم له من الآداب ما يجب على الناقد اتباعها،حتى يكون النجاح تكامليا،بين العمل الأدبى وما يقابله من رصد نقدى دقيق أهمها: الموضوعية.
على الناقد أن يتحلّى بالموضوعية ازاء أى نص يقوم برصده،أن يغض الطرف عن الشاعر أو الكاتب،ويصب تركيزه على جوانب العمل الأدبي،بنقاط ضعفه وجوانب قوته،باظهار جمالياته، وتمييز عيوبه،دون التطرق الى ذات الأديب،والتهجم على شخصه،كنوع من تصفية الحساب، أو التشفي.
ختاما أقول : لاشك أن النقد ثروة فكرية،بأهميته،وقوة حضوره فى الأدب،فهو يقوّم النص الأدبي،وهيبته فى قلوب الكتاب والشعراء،اذ يصبح الأديب أكثر دقة فى انتاجه،محاولا تلافى الأخطاء فى انتاجه اللاحق،ولكن يظل العمل الأدبى أبقى منه بلا منازع،وأخلد فى القلب والتاريخ والذاكرة.
ونحن في حاجة فعلية إلى إعادة الجسر والوشائج بين القارئ والناقد أولا،ليعود القارئ مرة أخرى إلى قراءة النقد،وهذا لا يمكن له أن يكون إلا بالكتابة النقدية الحقيقية التي لا تمتدح الأعمال السيئة أو تُداهن العديد من الكتاب الذين يعتمدون-الركاكة-منهجا لهم،فإذا ما عادت الثقة بين القارئ والناقد استطعنا أن ننهض مرة أخرى بثقافتنا العربية المتداعية أصلا،ولأستطاع القارئ اكتساب نفس المتعة التي يشعرها مع النص الأدبي حينما يقرأ نقدا حقيقيا.