حسن لافي
أمد/ يكرر الجميع مقولة أن المشهد السياسي الفلسطيني في قطاع غزة قبل السابع من اكتوبر واندلاع حرب غزة سيختلف عما بعده بالكامل، وأن هذه الحرب أنتجت مفاعيل لتغيرات جوهرية داخل الفكر السياسي والاجتماعي الفلسطيني برمته، أهمها تغير أولويات الناس في قطاع غزة، حيث تتقدم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية على الرؤى والافكار السياسية بكافة أبعادها، وهذا أمر طبيعي في ظل الكارثة الإنسانية التي أحدثتها آلة الابادة الجماعية الاسرائيلية ضد كل ما هو غزي من بشر وحجر وشجر، ما جعل المواطن يسعى بكل طاقته لتوفير احتياجاته الفسيولوجية من مأكل ومشرب ومسكن، حتى ولو كسرة خبز وشربة ماء داخل خيمة نزوح، كما يؤكد ذلك تسلسل “ماسلو الهرمي” للاحتياجات الانسانية.
من الدول التي أدركت مبكرا وبذكاء سياسي هذا التغير، دولة الإمارات العربية المتحدة، وركزت على الدبلوماسية الاغاثية في علاقتها مع غزة على حساب الدبلوماسية السياسية النمطية، فرغم تلقي الامارات ضربة كبيرة في جماهيريتها الشعبية داخل قطاع غزة على اثر توقيعها اتفاق التطبيع مع اسرائيل، بما عرف باتفاقات “ابراهام”، لدرجة مهاجمتها علنية من قبل الغالبية الفلسطينية بسبب قرار التطبيع مع إسرائيل.
إلا أنه مع اندلاع الحرب، واتخاذ القيادة الإماراتية قرارا بتسخير قدراتها الإغاثية لصالح غزة وأهلها، لدرجة المخاطرة بإرسال طواقم ميدانية اماراتية إلى غزة في ظل الحرب، ومع واقع ميداني حربي معقد جدا، يجعل من اسرائيل المتحكم الأساسي في مسار المساعدات الانسانية ووصولها لغزة وتوزيعها شمالا وجنوبا، وتدشين اي من المشاريع الاغاثية فيها، برزت قدرة الإمارات للاستفادة من علاقتها مع الاسرائيلي، فرغم أنها ليست الوحيدة ذات العلاقة مع اسرائيل، إلا أنها باتت الأكثر نشاطا من خلال ذراعها الاغاثي الهلال الاحمر الاماراتي، في تأسيس العديد من المشاريع الاغاثية، التي تغطي تقريبا كافة احتياجات المواطن الغزي الحياتية اليومية، والتي بات يشعر بأهمية تلك المساعدات في تفاصيل حياته اليومية، كان أبرزها انشاء المستشفى الإماراتي الميداني في مدينة رفح، تجلت أهميته في سد الفراغ الذي أحدثه استهداف الجيش الاسرائيلي للمنظومة الصحية في غزة، وإخراج غالبية مستشفياتها من الخدمة، اخرها مجمع ناصر الطبي، ومستشفى الأمل، و مع تكدس النازحين في مدينة رفح باتت المستشفى الإماراتي الميداني بما تملكه من طواقم طبية مميزة مصدر أمل ونجاة لمئات الجرحى والمرضى الغزيين، العالقين بين عدم القدرة للسفر للعلاج بالخارج، وبين منظومة صحية مدمرة في غزة.
إن فشل إسرائيل بالرهان على الدور القطري في غزة، ومع انحسار الخيارات الاسرائيلية في ادخال المساعدات الانسانية استجابة للضغط الدولي والامريكي، برز دور الامارات كدولة تسعى اسرائيل للحفاظ على تلك علاقة التطبيع معها، دون تأثرها بحرب غزة، وعدم تحفظها على اي دور إماراتي بعد الحرب، الأمر الذي استثمرته الامارات لتكثيف عملها الاغاثي.
لكن في ظل الكارثة والجوع والقتل والألم، لا يشغل المواطن الغزي المنكوب بالأبعاد السياسية المستقبلية، لأن هدفه الوحيد أن ينجو من الإبادة والحرب الاسرائيلية الحالية، وتلبية احتياجاته الحياتية اليومية الآنية، التي تمكنه من الصمود أمام شراسة الحرب ومآسيها.
لذلك التغيرات في أولوية الناس في قطاع غزة في ظل الحرب، دفعتهم إلى مراجعة كيفية إدارة العلاقات مع دولة الامارات، خاصة ان المساعدات التي تقدمها تمر في غالبيتها عبر الشراكة مع اللجنة الوطنية للشراكة والتنمية، التي تضم تقريبا الوان الطيف السياسي الفلسطيني كافة، ما دفع إلى بروز مزاج شعبي ذو تفكير أكثر براغماتية ينظر بإيجابية عالية لدورها.
وبات يتطلع لمزيد من الأدوار، ليس للإمارات وحسب، بل لكل الدول العربية والاقليمية والدولية، التي يمكنها مساعدة غزة انسانيا، وقادرة على المساهمة في تشكيل ائتلاف دولي رسمي وشعبي لتوفير الاموال اللازمة لإعادة إعمار غزة وازالة أثار الحرب في اليوم التالي منها.
فلم تعد الشعارات السياسية والمواقف الكلامية المحدد الأساسي والوحيد لدى الشعب الفلسطيني للحكم على مدى اقتراب او ابتعاد هذه الدولة او تلك من القضية الفلسطينية، بل أدخلت الحرب محددات جديدة، في مقدمتها مقدار مساهمتها فعليا في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، الهدف الوطني الأسمى في القضية الفلسطينية، في ظل مخططات صهيونية مازال اهم أهدافها اقتلاع الفلسطيني وتهجيره من غزة، ومن ثم من كامل الأرض الفلسطينية.