أمد/
لم يكن مؤتمر "المشترك الثقافي بين مصر وتونس.. الواقع والآمال" المنعقد في القاهرة بشهر مارس 2022م -وقبله المائدة المستديرة حول المشترك الثقافي بين مصر والسودان سبتمبر 2021م- والذي خرجت أعماله في كتاب بعنوان: "فلسفة المشترك الثقافي.. نحو دراسات ثقافية عربية مقارنة"؛ سوى الخطوة الأولى لتأسيس مدرسة علمية عربية جديدة ومجال بحثي جديد، يعتمد على منظور منهجي ثقافي نقدي في مقاربة الظواهر الثقافية واستشراف مستقبلها، مع طموحه في تفعيل السياسات الثقافية بين البلدان العربية بما يعزز المشترك الثقافي العربي.. خصوصا وأن المنطقة العربية قديما شهدت العديد من موجات الهجرة المتبادلة في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا وكذلك منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وهي المنطقة التي تعتبرها الدراسات الثقافية العربية المقارنة مجالا حيويا لها بمفهوم "الجغرافيا الثقافية"، وتسعى للعمل فيه وتحقيق الفعالية الثقافية بحثا عن المشترك الثقافي والبناء عليه، وعلى مستوى الحضارة الإسلامية تنظر الدراسات الثقافية العربية المقارنة للذات العربية بمفهومها وحضورها الثقافي الواسع؛ كـ"ثقافة فعالة" في قلب تلك الحضارة، تتكامل معها ويرفد كل منهما الآخر.
وتنظر الدراسات الثقافية العربية المقارنة باهتمام إلى موضوع "التراث الثقافي غير المادي"، باعتباره المفهوم المعاصر الذي طرحته اتفاقية اليونسكو لعام 2003 (اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي) للتعبير عن الفلكور والموروث الشعبي المتنوع، وباعتبار هذا المجال المؤسسي من أهم المجالات التطبيقية المقترحة لحضور الدراسات الثقافية العربية المقارنة، ولكن وفق سياسة ثقافية جديدة تقوم على تطويع مسارات اتفاقية "صون التراث الثقافي غير المادي" لخدمة المشترك الثقافي العربي، وسياسات إعادة التوظيف.. ذلك على أمل أن تتحول هذه المدرسة العلمية الجديدة لقاطرة ثقافية فاعلة للعالم العربي في اللحظة الراهنة، التي تتسم بتحديات وجودية خارجية وداخلية حاسمة إذ تقف الثقافة العربية جماهيرا ومؤسسات ونخبةً في موقع البحث عن طريق جديد، لأن معظم المقاربات الثقافية العربية تراوح مكانها منذ فترة، سواء تلك التي تتمترس حول الآخر والذات الأوريبة وتُستلبُ إلى حاضره، أو تلك التي تتمترس حول الذات العربية وتتخندق حول ماضيها، فلقد وصلت مسارات القرن العشرين وإرثها الثقافي إلى مرحلة الانسداد وعجز الاستقطابات وتفجر التناقضات، مما يجعل من المجدي البحث عن طريق جديد للذات العربية يتجاوز التناقضات التي تفجرت، والاستقطابات التي أصبحت عبئا يكبل حاضره ويعيق تقدمه صوب المستقبل المنشود.
مع الإشارة إلى أن مسار الدراسات الثقافية العربية المقارنة يختلف جذريا عن فكرة "الدراسات الثقافية الأوربية " التي قامت على الانتصار للهوامش والأطراف، فبديلا عن طرح مشاريع كبرى للتعامل مع المجتمع الغربي ككل، اختاروا منهج البحث في الطبقات والعوامل الكامنة والفرعية وراء الظواهر الإنسانية وفيها، بهدف اكتشاف التمثلات الهامشية من أجل الانتصار لتلك الهوامش أيا كانت! حيث تحول الانتصار للهوامش وتمثلاته إلى أيديولوجية جديدة عند اليسار الأوربي واعتبرها نضالا وفق سياقه الخاص، وكان تطبيق "الدراسات الثقافية" الأوربية في البلدان العربية يحمل الأزمات والفلسفة نفسها، دون نظر لسياق الذات العربية خاصة في اللحظة العالمية الراهنة التي يبحث الجميع فيها عن أشكال وفلسفات وسياسات جديدة للعبور للمستقبل، إذ ستكون الدراسات الثقافية العربية المقارنة على العكس من الغربية تبحث في المتون الحضارية العربية المشتركة من منظور منهج "التعدد والبينية" في أكثر من قطر عربي، وتعتمد على فلسفة المشترك الثقافي بديلا عن فلسفة البحث في الهوامش وتفجير التناقضات والاستقطابات.. إذ يزخر العالم العربي بتراث حضاري وثقافي غني جدا ففيه نشأت نصف حضارات العالم القديم المزدهرة على الأقل، من جبال الأوراس إلى النيل والفرات واليمن وشبه الجزيرة العربية وما بينهم (الحضارة المصرية القديمة، والحضارة العراقية القديمة السومرية ثم البابلية والاشورية، وحضارات بلاد الشام القديمة الكنعانية والفينيقية، وحضارات الشمال الأفريقي والمغرب العربي الكبير، والحضارة اليمنية في جنوب الجزيرة العربية وغيرها) كما كانت المنطقة مهدا للديانات السماوية الثلاث الكبرى (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فضلا عن التنوع القومي والثقافي واللغوي المتوارث عبر الأجيال ليشكل "مستودع هوية" شديد الرحابة والتجاور والتعايش، في الفنون وأنماطها الآثارية والمعمارية والتشكيلية والادبية والغنائية، وفي العادات والتقاليد المتنوعة في الزراعة والري والحرف اليدوية والأمثال والأزياء والأطعمة وطقوس الأفراح والأتراح وغيرها، بما يشكل مادة خصيبة للأبحاث وللدراسات الثقافية العربية المقارنة التي تستدعيها اللحظة الحضارية الراهنة.
وتطرح هذه الدراسات الثقافية العربية نفسها في سياق ما يمكن تسميته بـ"دراسات ما بعد الاستقلال" التي تختلف عن "دراسات ما بعد الاستعمار"، تلك التي كانت تتمحور حول جدل الذات المحررة مع الآخر المستعمر القديم، وذلك بالتركيز على جدل الذات العربية المحررة مع أنساقها الثقافية الداخلية والبينية.. بما يتجاوز المتلازمات الثقافية التي ارتبطت باعتبار "المسألة الأوربية" نظرية مطلقة للوجود ونهاية مركزية وكلية للتاريخ (بفلسفة رأسمالية أو شيوعية) والذين استلبوا لها، وكذلك تتجاوز الذين تمترسوا ضد المسألة الأوربية بمتلازمات ثقافية تستند إلى نظريات مطلقة مضادة بمسحة دينية (فرق الدين السياسي)، حيث تتحرك الدراسات الثقافية العربية المقارنة في فضاء جديد مغاير في عالم "ما بعد المسألة الأوربية" متجاوزة الاستقطابات التاريخية إرث القرن العشرين، وترى في القرن الحادي والعشرين العديد من اللحظات المفصلية الجديدة، التي من الممكن أن تتحول إلى رافعة ثقافية كبرى وسردية جديدة للإنسانية كلها، عبرت عنها الشعوب العربية في موجات ولحظات متكررة ومبشرة في القرن الجديد.
مع التأكيد على أن هناك آفاق أكاديمية مستقبلية كثيرة مفتوحة أمام مجال الدراسات الثقافية العربية المقارنة في عمومه وإطلاقه، وهذه الآفاق والفرص المستقبلية ترتبط بدراسة الظواهر الثقافية والإنسانية إجمالا دراسة ثقافية تبحث عن أنساقها الكامنة ومسبباتها العميقة في مستودع الهوية الإنسانية الجامعة بطبقاته المتعددة والمتراكمة، إنما مع تقييمها أو معيرتها أو فلسفتها وفق معيار إنساني أو قيمي عام ينتمي لـ"القيم الإنسانية العليا" المشتركة عموما عند البشر أجمعين، و ليس تقييمها او معيرتها وفلسفتها وفقا لمتلازمات "المسألة الأوربية" وسياقاتها الخاصة التي ارتبطت بالانتصار للهوامش الحاضرة داخل ظاهرة ثقافية ما.. وتتقاطع الدراسات الثقافية العربية المقارنة أيضا مع الدراسات الحضارية الفلسفية، خاصة دراسة تاريخ الأنماط الحضارية في المنطقة العربية وفلسفاتها الكلية الحاكمة، ومقارنة تلك الأنماط الحضارية القديمة بالأنماط الحضارية في الموجات الحضارية الأوربية اللاحقة (اليونانية- الرومانية- الجرمانية) خاصة النمط الغربي الحالي بجذوره الجرمانية، والنظر في الكليات العامة التي حملت تلك الانماط للمستقبل بحثا عن استشراف أنماط حضارية فاعلة واختبار حضورها في البلدان العربية، وكذلك النظر في الأنماط الحضارية الشرقية خاصة في الصين واليابان، ودراسة أشكال التمدد والتوسع والهجرة والصعود فيما بين تلك الأنماط الحضارية.
ومن ضمن التطبيقات والمسارات المقترحة للدراسات الثقافية العربية المقارنة أن تنظر في مجال الصورة النمطية للذات العربية عند الآخر الدولي المتعدد ومصادرها، وأن تقدم النقد لهذه المصادر وتضعها في مقارنة مع الحقيقة والأصل، بالاستناد إلى عملية "الترجمة عن اللغة العربية للآخر" والعمل على دراسة إشكاليات هذه الترجمة ومعوقاتها ومفاهيم الخطاب المقترح لتغيير الصورة النمطية للذات والآخر، من زاوية اهتمامها بتقديم خطاب جديد وترجمته للغات الأخرى عبر الاهتمام بنظريات الارسال والتلقي ومحددات استقبال الخطاب لكي يحقق خطابها الجديد الحجية والمنطقية والقدرة على الوصول إلى "الجمهور المستهدف" عند الآخر.. كذلك من ضمن اهتمامات الدراسات الثقافية العربية المقارنة البحث في أنماط إدارة "مستودع الهوية" عند الذات العربية، ودراسة أنماط الإدارة الحالية ومقارنتها بأنماط إدارتها التاريخية، ورصد مواضع الضعف واقتراح أنماط وسياسات جديدة في إدارة "مستودع الهوية" العربي برؤية تتجاوز استقطابات القرن العشرين وإرثه، وذلك على المستوى المحلي أو القطري وعلى المستوى الإقليمي وعلى المستوى العالمي، فعلى المستوى المحلي أو القطري تهتم الدراسات الثقافية العربية المقارنة بالتأكيد على سياسات التجاور والتعايش بين مكونات مستودع الهوية داخل كل قطر عربي وأن التنوع لا يمنع الوحدة في مشروع عام وجامع، يقوم على "المشترك الثقافي" و"الفرز الطبيعي" لأفضل عناصر المجتمع وتقليل أثر العوامل ومعايير التنخيب الفرز غير الطبيعية، بما يقلل من استقطابات المسألة الأوربية وتفجيرها للتناقضات التي صاحبت الدراسات الثقافية الغربية وتفجيرها للتناقضات في البلدان العربية .
وفي اتجاه إدارة تناقضات "مستودع الهوية" العربي وأنماطه على المستوى الأقليمي خاصة التدافع مع مكونات الهوية المتداخلة مع "مستودع الهوية" العربي؛ المتمثلة في التداخل والتدافع مع الحضور التركي والإيراني و"الصهيوني"، سوف تتحرك الدراسات الثقافية العربية المقارنة بفلسفة تميل إلى البحث عن أنماط مضادة للاحتواء الناعم للتمددات الإقليمية الناشطة على حساب مستودع "الهوية العربي"، وفي الوقت نفسه البحث عن أنماط مثلي للتعبير الأمثل عن مكونات "مستودع الهوية" العربي المتداخلة مع المستودعات الأقليمية الثلاثة الأخرى، بما يضمن لمخرجات الدراسات الثقافية العربية في هذا الشأن أن تتسم بالحجية والمنطقية وامتلاك قدرات التحديث وبناء "التراكم الحضاري" الناجع والفاعل، وفي السياق نفسه وعلى مستوى إدارة "مستودع الهوية" العربي وأنماطه السائدة، والأنماط المقترحة والمستقبلية في علاقته بمستودع الهوية العالمي وتدافعاته الراهنة، خاصة مع الصعود الروسي ومشروع الأوراسية الجديدة ومع الصعود الصيني ومشروع طريق الحرير الجديد، فإن الدراسات الثقافية العربية المقارنة ستبحث في أنماط "التجاوز والتوازن" أي "أنماط التجاوز" لمستودع الهوية العالمي واستقطاباته بوصفه انعكاسا للمسألة الأوربية (وفكرة نهاية التاريخ ومركزيتها رأسماليا وشيوعيا) من جهة، ومن جهة أخرى أنماط التوازن مع المرحلة العالمية الراهنة واستقطاباتها والتأكيد على مصالح الذات العربية وقدرتها على تقديم مفصلية ثقافية عربية كامنة، يمكنها أن تتحول لشكل ثقافي عالمي يتجاوز شعارات المسألة الأوربية يمينا ويسارا.
ويمتد طموح مشروع الدراسات الثقافية العربية المقارنة إلى التأثير في بروتوكولات عمل المنظمات الثقافية التي تشارك فيه الدول العربية، سواء في "اليونسكو" على المستوى الأممي، أو "الإيسيسيكو" على مستوى الدول الإسلامية، أو "الألكسو" على مستوى الدول العربية نفسها، وفي الوقت نفسه الترويج لمشاريع تطبيقية لتفعيل منهج "الدراسات الثقافية المقارنة" العربية، والبحث في العناصر الثقافية المشتركة، والتأكيد عليها، والنظر في كيفية إعادة توظيفها واستدامتها، من ثم التمهيد لمشاريع طرحها للتداول على المستوى العالمي، في الاجتماعات الدورية والجمعيات العمومية للمنظمات الدولية ذات الصلة، والدعوة لمجال بحثي جديد في الدول العربية تحديدا تحت اسم "الدراسات الثقافية العربية" المقارنة، وتأسيس الكراسي العلمية بهدف تهيئة البيئة البحثية لنمو هذا المجال الجديد، والدعوة لدمج هذا المشروع في السياسات الثقافية العربية ودعمها.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى مجموعة من الأوراق المرجعية لمشروع الدراسات الثقافية العربية المقارنة، خرج بعضها في المؤتمر الأول الذي عقد بعنوان: "المشترك الثقافي بين مصر وتونس.. الواقع والآمال"، وتحديدا في المحور الأول للمؤتمر الذي حمل عنوان : المشترك الثقافي العربي وتدافعاته النظرية، والذي قدم ثلاثة أوراقا مرجعية لكل من د. حاتم الجوهري رئيس المؤتمر، وعضوا اللجنة العلمية للمؤتمر د.قاسم المحبشي ود.عمر كامل حسن، وحملت الأوراق العنواين التوالية: "الدراسات الثقافية العربية المقارنة.. فلسفة المشترك الثقافي وتحدياتها"- "المشترك الثقافي العربي والنخب الثقافية في عالم متعدد الثقافات"- "السياسات الثقافية المقترحة لتعزيز المشترك الثقافي العربي"، كذلك بعض الأوراق البحثية التي نشرها د.حاتم الجوهري ذات الصلة المرجعية بالمشروع والتي تتعلق بـ: المسألة الاوربية، ودراسات ما بعد الاستقلال، وإعادة توظيف التراث، ونقد مسار الدراسات الثقافية الغربية.. وذلك كما يلي:
الدراسات النظرية المرجعية للمشروع
1-دراسات نظرية مختارة من المؤتمر الأول
(د.حاتم الجوهري- د.قاسم المحبشي- د.عمر كامل حسن)
– الدرسات الثقافية العربية المقارنة.. فلسفة المشترك الثقافي وتحدياتها- د.حاتم الجوهري
– المشترك الثقافي والنخب العربية في عالم متعدد- د. قاسم المحبشي
– السياسات الثقافية المقترحة لتعزيز المشترك الثقافي العربي- د. عمر كامل حسن
———————————-
2- دراسات نشرها د.حاتم الجوهري على صلة مرجعية بالمشروع
———————————-
– الدراسات الثقافية.. مقاربة ما بعد المسألة الأوربية- د.حاتم الجوهري
– النقد الثقافي.. مقاربة ما بعد المسألة الأوربية- د.حاتم الجوهري
– الحضارة والتراث.. سياسة ثقافية جديدة- د.حاتم الجوهري
– دراسات ما بعد الاستقلال.. الذات العربية والكولونيالية الجديدة- د.حاتم الجوهري
– ما بعد المسألة الأوربية.. كورونا كمفصلية ثقافية للذات العربية- د.حاتم الجوهري
———————–
رابط البيان منشورا على موقع "الحوار المتمدن"