الحبيب عكي
أمد/ وأنا أرتب بعض الكتب والمجلات في مكتبتي، لفت انتباهي جريدة قديمة كنت أواظب على اقتناء عددها الأسبوعي الذي كان دائما يتلألأ بملحقه الثقافي وكثير من إبداعات الشباب التي تكون إلى جانب كتابات الرواد الكبار ومقالات الباحثين المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والكتابات الفنية والأدبية. وكل ذلك اليوم أصبح من التراث الثري المأسوف عليه، عنوان مرحلة مأسوف عليها أيضا، وهي مرحلة الصحافة المكتوبة والسلطة الرابعة فعلا، مرحلة الاعلام الصلب قبل ميوعة هذه الأيام بجل أشكالها المسموعة والمرئية، المكتوبة والإلكترونية، مرحلة القراءة المسترسلة والكتابة الهادفة والسجال الفكري والتدفق الإبداعي على المستوى التنظيري وعلى أرض الواقع المدني الميداني، ” إوى الدوام لله”.
كان مما لفت انتباهي في جريدتي القديمة، بابها المعنون ب ” منوعات مختلفة: Faits Divers” وكانت الجريدة – مشكورة – تنشر لي بعض المحاولات في هذا الباب، اعتدت على نسجها كمحاولات تدريبية في هذا الصنف الصحفي الذي لا يهتم لا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا حتى بالشعر والفن والثقافة، أكثر مما يجد ضالته في وقائع عادية من حياتنا اليومية، يمكن لكل منا وخاصة المبتدئين أن ينسجوها ويستقوها بالأخص من واقعهم الذي يزخر بها، فقط، مع مراعاة قالبها المعروف كما درسناه في المرحلة الثانوية: ” ماذا حدث.. ومتى وكيف.. وأين ومع من.. وما النتيجة”، أو العبرة التي تكون في العادة واضحة أومضمرة ولكنها متروكة لذكاء القاريء، يجليها زمن الحدث بين الماضي الناقص والمركب”.
وقفت في الجريدة على حكاية من الزمن الماضي، رأيتها اليوم من الزمن الحاضر أيضا، بل حكاية بنيوية من الزمن الآتي، وكأن الزمن لا يتغير، أو ربما نحن من لا يتغيرون بقدر ما يلح علينا كل شيء في أن نتغير، ولا ندري ماذا يلزمنا وكم يلزمنا من أجل هذا التغيير الإيجابي طبعا؟. على أي، تقول الحكاية وعنوانها: ” طفلة ضحية الإهمال السافر”: ” بعدما فشلت في مفاوضاتها مع أمها التي رفضت أن تسمح لهما بالخروج أو حتى اللعب بالقرب منها وفي حضرتها في المنزل، فخبأت لهما ألعابهما، أخذت اليافعة بيد أختها الصغيرة ذات 4 سنوات، وخرجتا خفية عن أمهما إلى حديقة الحي كذا.. بمدينة كذا.. على الساعة كذا.. خلال اليوم الأخير من العطلة الربيعية لأطفال المدارس. كان كل شيء سيمر بخير وتستمتع الطفلتان بخرجتهما، لكن حدث لهما حدث درامي كلفهما الكثير، كلفهما حياة الصغيرة البريئة، فكيف ذلك؟:
بداية، عند الوصول إلى حديقة الحي، أجلست اليافعة أختها الصغرى في مقعد، وأوصتها ألا تتحرك منه وألا تغادره مهما كان، جلست بجانبها هنيهة ثم تحركت دون شعور للعب مع حشد من الأطفال رأتهم يلعبون مبتهجين بالقرب منها، بعدها أيضا تحركت الصغيرة بكل عفوية نحو حديقة مجسمات الألعاب بجوارها، امتطت ظهر حصان كهربائي لا يشتغل، وعندما أرادت ربطه بالكهرباء كي يتحرك كما قيل لها، صعقها سلك كهربائي ذو توتر مرتفع كان قد تدلى من عمود كهربائي ويتحرك حوله. أطلقت الطفلة صرخة قوية مزلزلة، وبسرعة فائقة تحلق أطفال الحديقة حولها، لقد أصبحت ممددة على الأرض، هامدة وربما ميتة رغم أنها تتنفس بصعوبة وبشكل ضعيف، علا الهرج والمرج وصراخ الحشد، حضر مسؤولو الحديقة، أخذوا يتحركون، نادوا للتو على السلطات.. على الشرطة.. على رجال الوقاية المدنية، وفعلا، حضر الكل رغم ما كان من التأخر الواضح عند البعض، لكن التأخر تأخر على كل حال، ونتائجه وخيمة، لقد ماتت الطفلة المصعوقة، حسب تحاليل رجال الوقاية التي قام الطبيب الشرعي بتأكيدها في المستشفى.
وكيل جلالة الملك أعطى أمره بدفن المرحومة البريئة، ولكن أبويها طالبوا بحقوقها، لكن ضد من؟، من المجرم؟، من المسؤول؟، أو على الأصح، من المسؤول الحقيقي؟، هل هي الأم التي لم تسمح لبناتها باللعب في المنزل، ولم تتمكن من رأيتهما عند خروجهما منه؟، هل هي اليافعة القاصرة التي لم تكن مسؤولة كما ينبغي عن أختها، وتحملت مسؤولية لم تكن في استطاعتها؟، هل هي السلطات التي وصلت متأخرة وفوتت على الطفلة بصيص أمل الإنقاذ الممكن؟. هل هم رجال المكتب الوطني للكهرباء (O.N.E) الذين لم يحكموا تركيب الأسلاك الكهربائية رغم العديد من الشكايات المكتوبة التي توصلوا بها في الموضوع من طرف مدير الحديقة كما صرح بذلك؟.
حقيقة، لن يكون الاتهام إلا ضد الإهمال القوي العارم والاهانة السافرة البطلة، وهي التي تكتسحنا دائما وتفتك بنا أكثر وأكثر؟. نعم، من يقصف الآن بلا شفقة ولا رحمة أطفال غزة الأبرياء؟. من يدفن كراتهم وألعابهم البلاستيكية.. دفاترهم و كتبهم المدرسية.. ملابسهم وأغراضهم الشخصية.. تحت المرعب من ركام منازلهم المدمرة عن آخرها؟. من يكسر أرجلهم ويقطع أيديهم ويغتصب براءتهم وكرامتهم وأرضهم بكل همجية وحيوانية، حتى يصعق من نجا منهم من الموت بالإعاقة واليتم والتشرد والتهجير..، كما صعقت الصغيرة البريئة بالكهرباء، فلا يستطيعون اللعب بعدها مدى الحياة وهو من حقهم ككل الأطفال؟. من أجرم ويجرم في حقهم بكل الأشكال في كل الأزمان؟، أليست هي البربرية الصهيونية الإسرائيلية وحلفائها؟. طبعا، هم ولا أحد سواهم. ولكن أيضا، حجم جحيم الإهمال القومي العارم والاهانة العالمية المتوحشة، ولا زالت تكتسحنا دائما وتفتك بنا أكثر وأكثر، رغم كل الشعارات الحقوقية المعلقة بحماقة على واجهاتنا الزجاجية المشروخة؟.