د. منصور أبو كريّم
أمد/ يثير حجم الدمار الشامل الذي نتج عن الحرب والعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة العديد من التساؤلات، فهل ما يحدث من دمار شبه شامل للبنية التحتية والمؤسسات الثقافية والجامعات والمرافق العامة جاء ردًا على عملية طوفان الأقصى حقاً؟ أم تم استخدام العملية مبررًا لتصفية الحساب مع غزة وعقدتها؟
لا شك أن عملية طوفان الأقصى عززت التحديات الأمنية السياسية التي تواجه السياسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، فعلى الدوام حضر القطاع بصفته تحديًا أمنيًا على طاولة صانع القرار الإسرائيلي بعد قيام دولة إسرائيل مباشرة، وما عزز حضوره الأمني بوجه خاص، أنه اعتُبر جيبًا عسكريًا مصريًا متقدمًا داخل دولة إسرائيل. ففي العام 49 أجرت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون نقاشًا حول التهديد الأمني للقطاع، وفي حينه طالب بن غوريون باحتلاله وضمه، كما تعززت هذه التحديات نتيجة تحول القطاع خلال السنوات الماضية إلى صداع مستمر في عقل المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، لكن ليس لدرجة أن تقوم إسرائيل بتدمير كامل لقطاع غزة.
في ضوء النتائج العسكرية والسياسية التي تمخضت عنها عملية السابع من أكتوبر 2023؛ اعتبر إسرائيل أن حركة حماس قد كسرت كل الخطوط الحمراء، وأصبحت لا تشكل فقط خطرًا على أمن مستوطنات غلاف غزة؛ بل أصبحت تشكل خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي، فأعلنت الحرب على غزة وحركة حماس، ووضعت أهداف للعملية العسكرية في القطاع، تمثلت في القضاء على قدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية، وأكدت على أهمية القضاء على حكم الحركة وإعادة السيطرة على قطاع غزة من جديد.
لقد ردت إسرائيل على عملية طوفان الأقصى بقوة، وأعلنت الحرب على قطاع غزة وحركة حماس، وقررت اسقاط حكمها وتقويض قدراتها العسكرية. كما جاءت الأهداف الرئيسية لإسرائيل في غزة مدعومة بإجماع واسع النطاق، تمثل في إزالة حماس من السلطة الحاكمة وتدمير بنيتها التحتية العسكرية إلى درجة تصبح فيها غير قادرة على تنفيذ المزيد من الاعتداءات على غرار 7 اكتوبر.
الرد الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر تجاوز أهداف الحرب المعلنة من قبل أركان الحكومة الإسرائيلية، فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حالة الحرب، كما أطلق الجيش الإسرائيلي عملية السيوف الحديدية، ففي وصفه لأهداف الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حركة “حماس” أعلن نتنياهو، ما يلي: “سوف نسحق “حماس” وندمرها”. وأعلن وزير الأمن استدعاء أكثر من 300 ألف من قوات الاحتياط استعدادًا لشنّ حرب على قطاع غزة، وحشد قوات كبيرة في الجبهة الشمالية تحسبًا لإمكانية تفجّر الوضع العسكري على الحدود مع لبنان، وردع حزب الله عن الانخراط في الحرب.
لقد وجدت إسرائيل في عملية 7 من اكتوبر وما نتج عنها من تداعيات، وما صاحبها من حالة تعاطف دولي مع الاحتلال فرصة ذهبية لتصفية الحساب مع غزة، غزة التاريخ والثقافة والتراث، فتم تدمير كل المعالم التاريخية والثقافية والحضارية للمدينة، وقتل وتهجير معظم سكانها، ودفع أبنائها للمغادرة تحت وطئه القصف!
وبحسب تقرير البنك الدولي فإن الحرب بحلول 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، كانت قد دمرت 77% من المرافق الصحية، و72% من الخدمات البلدية مثل الحدائق والمحاكم والمكتبات، و68% من بنية الاتصالات، و76% من المواقع التجارية، بما في ذلك تدمير شبه كامل للمنطقة الصناعية في الشمال
لقد دمر الاحتلال الإسرائيلي خلال 200 يوم من الحرب 181 مقراً حكومياً، و103 مدارس وجامعات دمرت بشكل كلي، و309 مدارس وجامعات دمرت بشكل جزئي، و239 مسجداً دمرت بشكل كلي، و317 مسجداً دمرت بشكل جزئي، بالإضافة إلى 3 كنائس استهدفت ودمرت، و206 مواقع أثرية وتراثية، فيما خرج 32 مستشفى و53 مركزاً صحياً عن الخدمة. واستهدف الاحتلال 160 مؤسسة صحية و126 سيارة إسعاف.
كما دمر الاحتلال 86,000 وحدة سكنية بشكل كلي، و294,000 وحدة سكنية دمرت جزئياً وأصبحت غير صالحة للسكن. وأظهر تحليل الأقمار الصناعية الذي أجراه باحثون في مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك وجامعة أوريغون أن أكثر من 56% من المباني تضررت أو دمرت في غزة حتى 2 أبريل/نيسان. ولا تزال التقارير تشير إلى استمرار القصف الإسرائيلي من الجو والبر والبحر في معظم أنحاء قطاع غزة، ما أدى إلى دمار هائل للمنازل والمباني وغيرها من البنية التحتية المدنية. وقد بلغت الأضرار المُبلغ عنها أكثر من 60% من المباني السكنية وأكثر من 80% من المنشآت التجارية، وفق بيانات حكومية فلسطينية. كما ارتفعت حصيلة ضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع في يومها الـ200 إلى 34 ألفاً و183 شهيداً، و77 ألفاً و143 مصاباً.
كل هذه الأرقام المخيفة والمفزعة من أعداد القتلى والجرحى والتدمير الدمار الشامل للبنية التحتية والمنشآت لا يوحي أنه جاء ردًا على العملية العسكرية، بقدر ما هو مرتبط بعقدة غزة، فعلى مدار تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اعتبرت غزة كمنطقة جغرافية خارجة عن السيطرة الإسرائيلية المطلقة، كما انها شكلت معضلة أمنية وسياسية لإسرائيل خلال السنوات الماضية، عقبت من أمتلك الفصائل الفلسطينية قدرات عسكرية، اعتبرت مصدر تهديد لمناطق غلاف غزة.
على الدوام مثلت غزة معضلة كبيرة على المستوى الأمنّي والسياسي والديمغرافي لإسرائيل، غزة التي حافظت على الهوية الوطنية الفلسطينية من الضياع، غزة التي احتضنت حكومة عموم فلسطين بعد النكبة، غزة التي منعت مخطط التهجير القسري والتوطين، غزة التي قال عنها يومًا ما رابين ” اتمنى أن أصحو يومًا ما أجد غزة قد ابتلعها البحر ” مثلت معضلة مستعصية للاحتلال الإسرائيلي على مدار أكثر من 70 عامًا.
مشهد الدمار الشامل على شارع صلاح الدين وفي قلب المدن والمخيمات لا يوحي أن هذا الدمار الشامل جاء فقط ردًا على عملية طوفان الأقصى، التي لا اتفق مع توقيتها وطريقة تنفيذها، بل جاء كنوع من تصفية الحساب مع غزة بكاملها، فتدمير مدينة حان يونس، وأحياء كاملة مثل حي الرمال والكرامة في مدنية غزة، وقصف المسجد العمري، وقصر الباشا، ومنزل الشهيد ياسر عرفات، الذي تحول لمتحف، لا يوحي أن ما يحدث يمثل ردًا على العملية العسكرية.
ما يحدث من تدمير شامل في غزة للبنية التحتية المدنية والمؤسسات العامة والخاصة والمنشآت الحيوية بصورة متعمدة ليس مرتبط فقط بمحاولة إسرائيل ترميم ميزان الردع وفق نظرية (الضاحية الجنوبية) بعد عملية 7 اكتوبر بقدر ما هو مرتبط بغزة كمنطقة جغرافية، شكلت عقدة لدى إسرائيل على المستوى السياسي والأمني والعسكري، عقب ما اعتبرت على الدوام خنجر في خاصرة دولة الاحتلال الجنوبية.