أمد/
يذكّرنا الموقف السلبى المتخاذل للمؤسسات الدولية والأممية، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولى، تجاه حرب الإبادة والتطهير العرقى فى غزة، بفشل عصبة الأمم المتحدة طوال عقدى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى، فى التصدِّى للقوى النازية والفاشية، والتى شكلّت خطرًا كبيرًا على السلم والأمن الدوليين وقتها، وهو الفشل الذى دفع العالم كله ضريبته من الدماء والموارد والأحقاد وتغيير الخرائط، وبنشوب الحرب العالمية الثانية، التى راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، ودمار مدن وخراب صناعات ومدنية.
كما تذكّرنا ثقافة الانتقام والثأر البربرى وأسلوب الفعل العسكرى الوحشى والعنف المفرط والمبالغ فيه، والذى مارسته قوة الاحتلال الإسرائيلى فى غزة، بذلك العنف المفرط الذى ردَّت فيه النمسا على اغتيال الأرشيدوق النمساوى فرانتس فرديناند، ولى العهد، فى يونيو 1914، أثناء زيارته وزوجته مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، حيث قام شاب صربى، واسمه جافريلو برانسيب، وعمره نحو 19 عامًا، بتنفيذ عملية الاغتيال، تعبيرًا عن رفضه لممارسات السلطات النمساوية، باضطهاد الشعوب السلافية، وطمس هويتها ولغتها. وكانت نتيجة عملية الاغتيال أن أعلنت النمسا الحرب على صربيا فى الشهر التالى، وتفاعلت معها آليات التحالفات الأوروبية، وبدأت الحرب العالمية الأولى، والتى استمرت أكثر من أربع سنوات، فى البر والبحر والجو، ودخلت أمريكا هذه الحرب فى إبريل 1917، وكانت النتيجة خسائر فادحة فى الأرواح البشرية والموارد، ونهاية للإمبراطورية النمساوية ــ المجرية، وتوقيع معاهدات بين المتحاربين فككت أنظمة إمبراطورية، وسقطت أسر حاكمة، وتغيرت خرائط وحدود ترابية، وقامت الثورة الروسية التى طبقت أول نظام اشتراكى فى العالم، وتقوضت بعدها الإمبراطورية أو الخلافة العثمانية، وصدرت وعود وترتيبات ما زال العالم يدفع ثمن مساوئها وأخطائها، ومن بينها: «معاهدة فرساى»، و«وعد بلفور» المشئوم الذى أثمر خطيئة تاريخية ألحقت ضررًا فادحًا بأمن الشرق الأوسط واستقراره.
كما تذكرنا بثقافة الثأر والانتقام الأهوج حينما ردَّت أمريكا بعنف عسكرى مفرط وتدميرى إثر الأحداث الإرهابية فى 11 سبتمبر 2001 فى نيويورك، وقامت باحتلال أفغانستان والعراق، وبمبررات واهية وكاذبة، وأنتج هذا الاحتلال عنفًا وإرهابًا غير مسبوق، وولّد تنظيمات متطرفة وأجيالًا جديدة تسعى إلى الانتقام، ولم يعالج هذا الانتقام العنيف والسياسات الحمقاء أسباب هذا العنف، رغم الأثمان الباهظة التى دفعتها شعوب وأوطان وموارد ومستقبل.
حروب تلد حروبًا، وتشيع الكراهية، وتهدر الموارد وتنتهك حق الإنسان فى الحياة والكرامة الإنسانية. تسرى رعدة فى أوصال شعوب العالم، يُخيفها هاجس حروب وحشية، يشنها حمقى ومجانين، ومرضى بغرور القوة وبنزعات الهيمنة والاستعلاء، ولا يتورعون حتى عن التلويح بالنووى والفناء، ولا يعطون فرصة واحدة لإقرار سلام عادل ومستدام، وصنعه وحفظه.
شاركت فى مؤتمر فكرى، عقد بالقاهرة قبل أسابيع، ونظَّمته مؤسسة المرحوم عبدالعزيز البابطين الثقافية، بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة فى مصر، حول مفهوم «السلام العادل والتنمية»، وتساءلت عن أسباب غياب مقاربات لتعلم السلام بوسائل وقائية رئيسية للحد من الحروب والعنف، وتحقيق تآزر بين جدول أعمال التنمية، وجدول أعمال استدامة السلام، الساعى لضمان القانون والعدالة. وقدمت نقدا لنظرية «السلام الديمقراطى» التى وردت فى أحد أبحاث المؤتمر، ومؤداها «أن الحكومات الديمقراطية والشعوب الديمقراطية هى الأكثر اتجاهًا نحو السلام والتعايش العالمى»! واستحضرت فى تعليقى على خطأ هذه النظرية عددًا من النماذج فى وقتنا الراهن، مثل الحرب الأوكرانية التى دخلت عامها الثالث، وكيف أن «ديمقراطيات الغرب» والمؤسسات الأممية لم تعط فرصة واحدة للسلام، ولوقف هذه الحرب الشرسة والممتدة والمكلفة بشريًا وماديًا، ولها تداعياتها الخطيرة على الخرائط والتحولات الجيوسياسية الأوروبية، والتسلح وانتفاء الحياد.. إلخ، بل عملت هذه «الديمقراطيات» على تأجيج الحلول العسكرية. كما استحضرت اتفاقيات دولية سابقة، بدءًا من سلام «وستفاليا» عام 1648، ومرورًا بمؤتمر باريس للسلام عام 1919، لاقتسام غنائم الحرب العالمية الأولى، وصولًا إلى اتفاقيات سلمية غير عادلة، بصورة أو بأخرى، يُملى فيها القوى على الضعيف بنودها.
تأكل الحروب روح الإنسان، وتغذى ضروب الكراهية الجماعية. وثقافة الحروب هى ثقافة الموت المشترك، والضمان الوحيد لأمن الإنسان، هو ألّا يكون له أعداء يكرهونه إلى درجة الانتحار لإيذائه.
الشروق المصرية